وصف الكتاب
أستهل هذا الورقة بالسؤال التالي : لماذا أوكرانيا والحرب التي اندلعت ويعيش العالم أجواءها قبل حصولها على الأرض؟
في خطاب للرئيس بوتين أمام مجلس الدوما قبل ما يقارب عشرة أعوام، اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن إن حلف شمال الأطلسي ",الناتو", من مخلفات الحرب الباردة، الذي ",يدس انفه فيما لا يعنيه ويخرج عن إطار نظامه الداخلي",، مشيرا إلى أن ", حلف وارسو اختفى.. لم يعد موجودا.. فما الداعي لوجود منظمة كحلف الأطلسي؟",
من هذا المنطلق اعتقد أن الأزمة الأوكرانية بكل ما حملته من أحداث وبكل ما شابها من تصريحات، هي مجرد شجرة تخفي غابة المصالح المتقاطعة وامتدادات التاريخ وحسابات الجغرافيا. تقاطع المصالح انعكس على تباين زوايا النظر إلى الأزمة المندلعة في الجمهورية السوفياتية السابقة، وتباين زوايا النظر المشار إليه تجلى في إطلاق سرديات مختلفة للقضية نفسها، سرديات لا تعبر فقط عن اختلاف عادي في النظر للقضية، بل تنطلق أيضا من حسابات داخلية لكل صاحب رواية، والروايات هنا ليس هدفها إصدار موقف دبلوماسي من الأزمة الأوكرانية، بل أساسا توجيه الرأي العام الداخلي والدولي نحو تبني تلك القصة (1).
وعلى ذلك كانت الرواية الأمريكية معبرة عن حسابات اقتصادية معروفة ومتداولة تعكس أزمة داخلية، وكانت الرواية البريطانية منطلقة بدورها من حسابات داخلية، والسردية الفرنسية عبرت عن قراءة للوضع الداخلي في علاقته بمآلات الأزمة على الصعيد الاقتصادي، والمثير أن الرواية الأوكرانية (التي أطلقها الرئيس فولوديمير زيلينسكي) كانت أقل الروايات صخبا و",هيستيريا", وفق وصف الدبلوماسية الروسية للقراءات الغربية للحدث الأوكراني (2).
في أصل القضية رغبة أوكرانية بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ورفض روسي نابع من مخاوف من حلول القوات الغربية على حدودها، وفيما أبعد من قضية حلف الناتو، نزاع روسي أوكراني على الجغرافيا والخرائط، وفي ذلك أيضا أحداث في التاريخ ووقائع في الجغرافيا. لكن كل هذه الأبعاد لا تكفي لوحدها لفهم الروايات الغربية للقضية. يحاول ساسة الغرب إشاعة حالة من ",الذعر", في العالم، بالتخويف من ضربة روسية على أوكرانيا ستحدث خلال دقائق. السرد الغربي الهادف إلى صنع رأي عام موال لوجهة نظره ولحرف الأنظار عن القضايا الداخلية ليس جديدا. قبل غزو العراق شاعت روايات أميركية وبريطانية كاذبة مشابهة، لكن السرد الأمريكي والبريطاني، وقتذاك، نجح في إقناع قوى كثيرة بضرورة ضرب العراق قبل أن ",تدمر الصواريخ العراقية عواصم كثيرة في العالم", كما روج كولن باول وتوني بلير وقتها (3).
وهنا نجد أن الرئيس بوتين قد قرأ جيدا كل تلك السرديات وقرر أن يفرض سرديته والتي تعول علي اللعب بورقة الغاز والنفط ووضع قيود لحلف الناتو، وأمريكا تريد أن تستعيد دورها بعد المأساة التي سببها بايدن بخروجه المذل في أفغانستان.. كل هذا يؤكد أننا في منعطف جديد ينهى عصر أحادية القطب العالمي الذى كانت تقوده أمريكا.. وأصحبت هذه المواجهات تعطى دلالة سياسية وعسكرية واقتصادية أننا دخلنا عصر تعدد الأقطاب في العالم، وخاصة بعد اللقاء الصيني الروسي الذى يعطى إشارة قوية بأن العالم أصبح يواجه صراعات نفوذ على من يقود العالم في الفترة القادمة (4).
ولهذا نجد أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية اعتادت الشعوب على أن تشاهد استعراضات للجيوش في طوابير وصفوف منتظمة أحياءً للمناسبات الوطنية فهذه عادة مكررة حتى قرر الرئيس الروسي فلاديمر بوتين تغيير قواعد اللعبة الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة منذ سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989 معلنا أمس الموافق 24 فبراير 2022، في نهاية خطابه التبريري للأمة الروسية، ثم للعالم. قبلها عقد بوتن على الهواء، في سابقة هي الأولى، اجتماعا لمجلس الأمن القومي الروسي. وفى نهاية اليوم قال للشعب. الروسي والعالم إن أوكرانيا في الأساس فكرة روسية، خلقها لينين وحققها ستالين بمنحها أرضا.. وقال إنه منح أوكرانيا ١٩٠ مليار دولار على مدى تسع سنوات من عام ٢٠٠١ حتى عام ٢٠١٠ ، واتهمها بسرقة الغاز الروسي المار بأراضيها، واعتبر رئيسها زيلنسكي دمية في يد المخابرات الأمريكية المنتشرة في كل مستويات الدولة الأوكرانية (5)
وقال إن الأجهزة الأمنية الغربية تحرك أوكرانيا لاستفزاز روسيا لدخول الحرب، وأن الغرب لم يرد على المخاوف الأمنية الروسية الرئيسية، إنما رد على قضايا هامشية.. وفى الدقيقة الأخيرة من الكلمة أعلن اعتراف روسيا بالإقليمين الانفصاليين جنوب شرقي أوكرانيا، ووقع على القرار بحضور زعيمي دونتيسك ولوجانسك، وأتبع ذلك بأوامر لوزير الدفاع الروسي بإرسال قوات فورا لحفظ السلام في الجمهوريتين المستقلتين. المفارقة أن هاتين الجمهوريتين لا توجدان إلا علي ثلث المساحة الكاملة لهما، وأن القوات الحكومية الأوكرانية حولها، ومعنى هذا أن خطوط الالتهاب، لا التماس، قائمة حاليا. واقع الأمر أن الغزو الروسي وقع جزئيا تحت ستار الاعتراف بالجمهوريتين، وتوقيع اتفاقية تعاون وصداقة ودعم مشترك. الجمهوريتان أغلب سكانهما ناطقون بالروسية وموالون لموسكو، وينظر إليهم كخونة ومارقين في أوكرانيا الأم. بالطبع كان الرد الغربي إعلاميا بحتا، شجب واستنكار وتحذير، حتى الساعات الأولى من فجر اليوم، ثم تبلور مع ساعات الظهيرة إلى إجراءات مصرفية ضد خمسة بنوك روسية وشخصيات روسية، أما ألمانيا فاتخذت الخطوة الأوسع بتشجيع أمريكي فرنسي، فقد علقت، ولم تلغ، المصادقة على قرار بناء خط الغاز نورديم -٢ (6).
لن تكون هناك حرب، هذه رؤية رئيس أوكرانيا، الذي وصفه لافروف وزير الخارجية الروسي بالشخص غير المتزن، ووصفه بوتين بالدمية، لكن الدبابات الروسية ظاهرة بمحيط الجمهوريتين، ولاتزال القوات تتدفق، والاشتباكات تتواصل. لم تطلق روسيا بعد طلقة واحدة، وفيما يبدو فإن الغرب ينتظر تورطها، أو يورطها، وهو ما ينتبه له بوتين، لكي يستمر استنزاف القوة الروسية بدعم غربي هائل لكييف، وصحيح أن الخسائر البشرية علي الجانبين ستكون فادحة، لكن هذا هو ثمن الخريطة الجيوسياسية الجديدة للعالم: انتهى عصر القطب وبدأ منذ غزو القرم عصر الأقطاب، وفي القلب منه روسيا التي أهينت كثيرا. وفى اعتقادنا، أن إحساس روسيا بإهانة الغرب لها، وتجاوزها في الكثير من القرارات والإجراءات الغربية ضد مناطق مختلفة من العالم- غزو ليبيا مثالا صارخا- هو باعث رئيسي، ضمن محركات كثيرة للوقفة العنيدة لموسكو حاليا. إحساس المرارة بالإهانة عبر عنه لافروف مستاء، ولما اتهم الغرب روسيا بأنها تقصد إحياء الاتحاد السوفيتي، رد بوتين بأن موسكو تحترم سيادة الدول السابقة العضوية بالاتحاد السوفيتي.. أما أوكرانيا فهي استثناء. (7).
بإعلان الغرب عدم التدخل بالقتال دفاعا عن أوكرانيا تبدو موسكو تحت إغراء إتمام الغزو، وبإعلان موسكو أن المسار الدبلوماسي لايزال مفتوحا، يبدو أنها لا تريد الاندفاع، ما لم تضطر إلى ذلك.. فهل يضطرها الغرب؟ (8).
صحيح أن هناك عقوبات اقتصادية فرضت على روسيا من قبل الدول الغربية وحلفائها، لكن تلك العقوبات التي تفرض على موسكو منذ عام 2008 حين اجتزأت إقليمي أبخازيا وأوسيتيا من جورجيا لم تمنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن من ضم شبه جزيرة القرم واجتزائها من أوكرانيا في عام 2014. كل ذلك يحدث دائما في ظل إدارة ديمقراطية في البيت الأبيض، غالبا ما تفرض عقوبات اقتصادية كما فعل الرئيس السابق باراك أوباما قبل ثماني سنوات (9).