وصف الكتاب
يكاد يتفق معظم الباحثين علي أن هناك فرق بين السؤال والتساؤل، ليس في ميدان الفلسفة فحسب، بل في كل الميادين تقريبا، لأن السؤال بصيغه المختلفة : ", من؟، ما؟، ماذا؟، لماذا؟، كيف؟، أين؟، متى؟، وجميع الصيغ القريبة منها، أو المشتقة منها يتعلق باستفهام محدد عن معلومة، أو إجابة، أو تقرير والوقوف عند ذلك، بينما التساؤل يتعلق بموضوع مفتوح، أو بقضية غير منتهية، أو بتناول مشكلة جزئية، أو كلية، بحاجة لمزيد من البحث، والدراسة، والحوار. ولهذا فإن التساؤل يفيد ويثري الميدان الفلسفي أكثر من السؤال. ويمكن للتساؤل أن ينطلق من نفس صيغة السؤال التقليدية، والصيغ المتعددة للأسئلة يمكنها بدورها أن تمهد لتساؤلات بعدها، ومن ثم تمنحنا تلك التساؤلات تفكيراً فلسفياً بأمل الوصول إلى فكر فلسفي، ومن ثم معرفة ممكنة عن مشكلات فلسفية غير محددة.
ويعد طرح الأسئلة بشكل عام من أهم أدوات العلم والمعرفة، والوصول إلى الحقيقة، وتبديد الجهل حولها، وكان للسؤال في اللغة العربية، عدة أغراض، ومنها: السؤال على الحقيقة، كأن تسأل عن شيء تجهل معناه، والسؤال لأغراض أخرى؛ كالسؤال التعجبي، والسؤال الإنكاري، ومن ضمن أنواع الأسئلة التي تفيد الحقيقة السؤال الفلسفي، وهو السؤال الذي يهدف إلى الوصول إلى المعرفة، والتي يكون دافعها الفضول والحيرة الناتجة عن الشعور بوجود مشكلة. أهداف السؤال الفلسفي يهدف السؤال الفلسفي إلى وصول السائل إلى حقيقة جدليّة تباينت حولها الآراء، واختلفت بشأنها المذاهب التفكيريّة، فهو ينحصر في زاوية حيرة العلماء لمسائل تتعلق بالوجود وأسبابه، وذلك بطرح أسئلة افتراضيّة وتخيلات من قبيل: ما أصل الوجود؟، ومن الذي أوجد الوجود؟، وما مصير العالم؟، وهل حقيقة يوجد بعث وحساب، وجنّة ونار، فهو نمط أسئلة جريئة يهدف للوصول إلى الحقيقة، وإن تعذرت الأفهام عن الوصول إليها. يتراوح السؤال الفلسفي بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي في التفكير، فمن حق العقل كما يتصوّر مثيرو الأسئلة الفلسفيّة أن يتصور الأشياء، ويطرح الأسئلة بهدف الوصول إلى الحقيقة، ناسين أو متناسين محدوديّة العقل البشري، ومحدودية الحواس لحكمة يريدها الخالق عزّ وجل.
وقد نشأت الأسئلة لدى الإنسان عندما تعامل مع الطبيعة بكل قضاياها، وبدأ الإنسان يفكر بكلمة ", مشكلة ", حين لم يجد لأسئلته صدى يرضيه من الطبيعة ذاتها، وللإنسان طبيعته الخاصة في مقابل الطبيعة الخارجية، وبين الطبيعتين تتولد المشكلات على شكل أسئلة، ولكن محاولات الإنسان الإجابة على أغلب الأسئلة إن لم يكن جميعها كانت تستند بداية على الخيالات والأساطير التي هي أبعد عن العقل، ومن ثم فقد وضع الإنسان تصوراته المبدئية باعتبارها حلولاً مؤقتة فدخلت تلك التصورات في الأساطير والآداب والملاحم والفنون والتاريخ مشكلة أنماطاً وارتباطات حددت ملامح ومسار التفكير ضمن ميادين محددة، بحيث حصرت تفكير الإنسان من خلالها لفترة طويلة، ولكنها من جهة ثانية لم تقدم للعقل ما يرضي شغفه، وعند ذلك بدأت الفلسفة تطرح أسئلة العقل معتبرة تلك الخيالات والتصورات مشكلات تدور حولها الأسئلة من جديد.
وإذا تساءل المرء عن الأهداف المرجوة من الفلسفة، فمن الواضح أنه سيصطدم بالعديد من المشاكل، وربما تحجب مشاكل المنفعة والجدوى مشاكل التعريف، والتحديد، ومشكلة النشأة، والميلاد، ومشكلة تاريخ المعارك، والمصير، والحضور في الواقع الاجتماعي، والعلاقة التي تقيمها مع العلوم والمنزلة التي تحتلها في الثقافة.
لكن أين بدأ تاريخ الفلسفة بالضبط؟، ومن أين بدأت تاريخها؟ وكيف بدأ الفلاسفة في التأريخ لأنفسهم؟ وماهي شروطها التوليدية؟، وهل يمكن أن تعاود الظهور بشكل آخر؟، وما الدور الذي يمكن أن تقوم به؟ متى يتم الاستئناف؟، وما الجديد عن الفلاسفة؟ وكيف يمكن تصور العلاقة بين المجتمع والكلام الفلسفي؟، ماهي الوظيفة الاجتماعية للفلسفة؟، وهل يمكن أن تلعب دوراً في سياسة الحقيقة والتصرف في السلطة؟
إن وظائف الفلسفة عديدة وتنقسم بين النظري والعملي ويتراوح النظري بين التحديد، والتوضيح، والتحليل، ويتراوح العملي بين الالتزام، والتطبيق، والتغيير، ويمكن تصور علاقة جدلية، ورؤية تكاملية بين الطرفين.
والسؤال الفلسفي له خصائص ومنها: ذو طابع إشكالي، وهي قضية تنطوي تحت منظور المُفارقة عن طريق طرح مجموعة من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها كلها، حيثُ يبقى سؤالٌ لا يُجاب عليه، والطابع الإشكاليّ للسؤال الفلسفيّ يُشكلُ تساؤلاً، لا مجرد سؤال عادي وظاهر، فالسؤال المنفرد والعادي يكون الجواب عليه مبرراً لوجود هذه السؤال، مثلاً عند طرح سؤال ",ما الكُره؟",، فإن الجواب يكون ظاهراً، أمّا الفلسفيّ فمثلاً يكون: ",هل يكون الكُره في الشيء، أم في نظرتنا للشيء؟، فهو معالجة لهذه الإشكاليّة، الأمر الذي يجعل من السؤال نفسه أسئلة فلسفيّة مستمرة عبر الزمان، فكل جواب لأي سؤال فلسفيّ هو سبب في سؤال جديد يُطرح، وقد عرَّفه الفلاسفة، بأنّه فن طرح السؤال وتأجيل الجواب للاستمرار الفلسفيّ. ذو طابع جذري، حيثُ يرى بعض الفلاسفة أن تكرار السؤال الفلسفيّ واستعادته ما هو إلاّ وصول إلى المبدأ والجذر الأول للسؤال، بمعنى أن السؤال هو أداة اختراق ونفاذ لحجاب ظاهر الأشياء والمفاهيم، من أجل البلوغ إلى أُسس الأشياء ومبادئها، كما هو عند الفلاسفة الطبيعيين في سؤالهم عن أصل الكون.
وإذا كانت الأسئلة في المراحل ما قبل سقراط، لم تميز بين الطبيعة والإنسان، فهذا مرده لقرب البدايات من التفكير الأسطوري، وعدم وضوح الرؤية عن التفكير الفلسفي ودوره فتم النظر إلى مشكلات الطبيعة باعتبارها لا تختلف كثيراً عن مشكلات الإنسان، وهذا ما نجده لدى الفلاسفة القدماء، أمثال طاليس، وفيثاغورس، وبارمنيدس، وهيراقليطس، وزينون الأيلي وغيرهم، فعندما بحث طاليس عن خلق الكون وأصل الأشياء كانت لديه تساؤلات شمولية، وعندما بحث فيثاغورس عن الانسجام ونظرية الأعداد كانت له أيضاً نظرة كونية، وعندما بحث بارمنيدس عن الوحدة كان يهدف إلى معرفة مطلقة أقرب للثبات، وعندما بحث هيراقليطس عن التغير والصيرورة، كان يسعى إلى تصور كلي لتفسير الوجود، وإن كان بارمنيدس يختلف عن هيراقليطس في رؤيته إلا أن كلا منهما كان يتطلع إلى معرفة الطبيعة وتفسير الوجود بمعان كلية، وهذا أيضاً ما نجده لدى زينون الإيلي تلميذ بارمنيدس والذي ابتدأ الحجج المنطقية ضد الحركة تأثراً بنظرة بارمنيدس، ونجد أن كل الفلاسفة القدماء على اختلاف فلسفاتهم يجمعهم الاهتمام باللوغوس والعقل الكلي .