وصف الكتاب
هناك سيل من الكتب قذفت بها المطابع إلى السوق، بعضها ولد ميتاً من دون أي انتباه، وبعضها قُرئ كالطعام البائت، وبعضها الآخر عاش قليلا من الوقت ثم اختفى، وبعضها أثار المعارك وظل عالقاً في مفاصل الثقافة جيلاً بعد جيل، وبعضها لا يزال يلاحقنا حتى اليوم. وبعضها مر بسلام إلى القارئ، وبعضها أدخل صاحبها التاريخ بجدارة.
من الكتب التي دخلت التاريخ من أوسع الأبواب كتاب ",الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي", للدكتور جمال المرزوقي، والذي يقول في مقدمته :",يشير كثير من كتاب الغرب إلى الحضارة الإغريقية كما لو كانت حدثا فريدا تتضاءل إلى جانبه ما قدمته كل حضارات الشرق القديم ، فبينما كانت مدنيات الشرق السابقة على مدنية الإغريق – في رأي هذا البعض من الكتاب – ذات كفاية بالغة في الأمور العملية ، فإنها كانت جدباء من الناحية العقلية ، لقد مارس ملايين الناس الحياة وخبروها قبل الإغريق فماذا فعلوا بها ؟ لقد ماتت خبرة كل جيل بانتهائه.. إن الإغريق هم الذين ابتكروا الأدب وأوصلوه إلى حد الكمال ، إن شعر الملاحم والتاريخ والفلسفة بكل فروعها والاقتصاد والرياضيات وكثير من العلوم الطبيعية كلها تبدا بالإغريق . وقد مال أشياع هذا الرأي تدريجيا باتجاه فكرة ",المعجزة اليونانية", و",أصالة الفكر اليوناني", و",الشعاع الخاطف",، في بحر من الظلمات ، حتى أصبحت النظرية عند بعضهم تعني القول بأن اليونانيين غير مدينين في علومهم وفنونهم وفلسفتهم ، بل وأديانهم لشئ شرقي ، وإن كان هناك أثر ما في الفنون والفلك ، فإن القفزة التي قدمها اليونانيون في هذا المجال تلغي هذا الأثر وتلاشيه ، وينتهي أصحاب الصورة المتطرفة لهذا الرأي ، إلى جعل علوم وفكر اليونان الطبيعيين نتاج العقل اليوناني الخالص (1).
ونظرا لأهمية موضوع الفكر الشرقي القديم قضاياها ، فقد جاء الدكتور جمال المرزوقي بكتابه هذا ليوضح لنا منهجه ونظرته إلي أهمية لأهمية الفكر الشرقي القديم مبينا في دراسته أنه في الوقت الذي كان فيه دعاة المعجزة العلمية اليونانية يصولون ويجولون لإثبات أن نشأة العلم يونانية خالصة, وأن اليونانيين قد توصلوا إلى اكتشاف ميادين العلم من فراغ كامل, كانت هناك طائفة من المؤرخين والفلاسفة أمناء مع أنفسهم ومع الحقيقة ومع التاريخ, فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية؛ ومن ثم قرروا أن الكلام عن معجزة يونانية ليس من العلم في شئ؛ فالقول بأن اليونانيين قد أبدعوا فجأة ودون سوابق أو مؤثرات خارجية حضارة عبقرية في مختلف الميادين ومنها العلم هو قول يتنافى مع المبادئ العلمية التي تؤكد اتصال الحضارات وتأثيرها بعضها ببعض, بحيث تؤثر الحضارة السابقة في الحضارة اللاحقة وتتأثر هذه بتلك تأثراً تتعدد أبعاده تارة وتختلف مجالاته وتتفاوت درجاته تارة أخرى .
فمن المستحيل مثلاً تجاهل شهادات اليونانيين القدماء أنفسهم, فقد شهد أفلاطون بفضل الحضارة المصرية القديمة, وأكد أن اليونانيين إنما هم أطفال بالقياس إلى تلك الحضارة القديمة العظيمة, وذلك في الحوار الذى أورده في محاورة ", طيماوس", بين سولون وأحد الكهنة المصريين الذى قال للمشرع الأثينى ", إن اليونانيين لا زالوا أطفال فى مضمار الحضارة ", (2). وهناك روايات تاريخية تحكي عن اتصال فلاسفة اليونانيين وعلمائهم ومنهم ", أفلاطون ", ذاته بالمصريين القدماء وسفرهم إلى مصر وإقامتهم فيها طويلاً لتلقي العلم (3).
فلم تكن نشأة الفكر الفلسفي في نظر المرزوقي يونانية خالصة ولم يبدأ اليونانيون باكتشاف ميادين العلم من فراغ كامل, بل إن الأرض كانت ممهدة لهم من بلاد الشرق التي كانت تجمعهم بها صلات تجارية وحربية وثقافية, والتي كانت أقرب البلاد جغرافيا إليهم (4).
على أن هذا لا يعني على الإطلاق أن المؤلف ممن ينكر فضل اليونانيين في ظهور العلم. والحق أن الاعتقاد بضرورة أصل واحد من للمعرفة, ربما كان عادة أوربية سيئة ينبغي التخلص منها, فإصرارنا على تأكيد الدور أسهمت به حضارات الشرق القديم لا يعني أننا ممن ينكرون على اليونانيين أصالتهم العلمية, ولا نشك لحظة في أنهم يمثلون مرحلة علمية ناضجة.