وصف الكتاب
اليوم نغوص في قراءة كتاب ",المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري",.. رحلة عبر التراث العربي ، للدكتور زكي نجيب محمود ، وهو كما نعرف قمة شامخة من قمم الفكر العربي والإنساني ، وأستاذ تخرجت على يديه أجيال وأجيال من المفكرين والمثقفين والأدباء ، وصاحب نظرة محددة في ضرورة الجمع بين أصالة التراث وأسباب العلم الحديث ، ورائد كبير من رواد حياتنا الفكرية والثقافية . ظل يملآ حياتنا فكرا وأدبا وعلما لفترة تزيد على خمسين عاما ، حيث كان يقف واحدا كواحد من الأعلام الذين تركوا بصمات لا تنسى على حياتنا الفكرية حتى أنه كان وما يزال يسمى بـ", الفيلسوف العربي المعاصر", ـ الذي استطاع أن يبلور لنفسه فلسفة خاصة مثله مثل كبار الفلاسفة ، بل آخر جيل فلاسفة الكبار في عصرنا .
قال عنه الكاتب والمفكر ", أبو يعرب المرزوقي", إن الكلام في زكي نجيب محمود مسألة مهمة جدا لفهم الحال التي وصلت إليها الثقافة المصرية في عهد المؤسسين للثقافة المصرية الحديثة ، وما يتميز به الدكتور زكي نجيب بخلاف جل المؤسسين لا ينتسب إلى المدرسة القارية وإنما ينتسب إلى المدرسة السكسونية ، حيث ينظر للثقافة الغربية بمنظار مختلف عن الثقافة الفرنسية خاصة وهي المؤثرة منذ بداية عهد محمد علي باشا في مصر .
من أقواله الرائعة التي لا تنسى قوله ", إن الثقافة ثقافة الأقدمين أو المعاصرين هي طرائق عيش ، فإذا كان عند أسلافنا طريقة تفيدنا في معاشنا الراهن أخذناها ، وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث ، وأما ما لا ينفع نفعا علميا تطبيقيا فهو الذي نتركه غير آسفين.
قصدت أن أفتتح ورقتي هذا بهذه المقولة لنقول : حمل انفتاح الشرق على أوروبا في القرن التاسع عشر الكثير من الأسئلة السياسية ، والاجتماعية ، والثقافية ، وكان أحد أهم هذه الأسئلة هو الموقف من التراث العربي ، ومنشأ السؤال في أغلب الأحيان ، كان البحث من سبيل للحاق عن حضارة بدت زاهية في عيون العرب آنذاك .
تعددت المحاولات للبحث عن حل لهذه المعادلة منذ عهد البعثات الأولي إلى فرنسا في زمن محمد على باشا ، وإلى اليوم ، ففي المكتبة العامة في المبني الرئيسي من جامعة لندن في عام 1946 لمعت الفكرة في ذهن الباحث المصري آنذاك ", زكي نجيب محمود", لتشتعل شرارة بحق ظلت متوقدة لأكثر من أربعة عقود تالية ، حيث توجه بكتابه ",المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري", ، والذي يمثل علامة في فكره ، حيث نجده قبل سفره إلى أوروبا كان يعترف بذاته أنه لم يكن على دراية كافية بالثقافة العربية ، وكان يشك في امكانية الثقافة العربية ذاتها في أن تصلح من أحوال العالم الثقافي ، ولكن حينما تبحر في الثقافة وعرف التراث جيدا كما كان يقول بدأ ينتقي منه ما يصلح لنا من الناحية الفلسفية ، وكان ذلك خلال فترة الأربعينيات من القرن الماضي ، ثم بعد ذلك اعتبر أن التخلي عن التراث هو انتحار حضاري ، وذلك بعد أن شهد النقاش بين التراثيين والحداثيين ، حيث التراثيين الذين يرمون الدخول في التراث ونقله بكامله ، والحداثيين الذين يرون الانقطاع ، فكانت خلاصة أعماله في كتاب ",المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري", أنه أراد وصلا بين هذا وذاك ، حيث يقول : وقد أردت بهذا الكتاب الذي بين يديك أن أقف مع الأسلاف في نظراتهم العقلية وفي شطحاتهم اللاعقلية كليهما ، فأقف معهم عند لقطات التقطتها من حياتهم الثقافية ، لأرى من أي نوع كانت مشكلاتهم الفكرية وكيف التمسوا لها الحلول ؟ .. لكنني إذ فعلت ذلك ، لم أحاول أن أعاصرهم ، وأتقمص أرواحهم لأرى بعيونهم وأحس بقلوبهم ، بل آثرت لنفسي أن احتفظ بعصري وثقافتي ، ثم أستمع إليهم كأنني الزائر جلس صامتا لينصت إلى ما يدور حوله من نقاش ، ثم يدلي فيه بعد ذلك لنفسه ولمعاصريه برأي يقبل به هذا ويرفض ذاك .
يقول الدكتور زكي نجيب محمود في مقدمة كتابه : أردت بهذا الكتاب الذى بين يديك أن أقف مع الأسلاف - فى نظراتهم العقلية وفى شطحاتهم اللاعقلية كِليهما - فأقف معهم عند لقطات ألقطها من حياتهم الثقافية، لأرى مِن أى نوع كانت مشكلاتهم الفكرية، وكيف الْتمَسوا لها الحلول، لكنني إذ فعلتُ ذلك، لم أحاول أن أُعاصرهم وأتقمَّص أرواحهم لأرى بعيونهم وأُحِسَّ بقلوبهم، بل آثرتُ لنفسي أن أحتفظَ بعصري وثقافتي، ثم أستمع إليهم كأنني الزائر جلس صامتًا لِيُنصِت إلى ما يدور حوله من نقاش، ثم يُدْلى فيه بعد ذلك - لنفسه ولمعاصريه - برأي يَقبل به هذا ويَرفض ذاك.
ثم يستطرد فيقول : قسمتُ الكتاب قسمَين: جعلت أحدَهما لرحلتي على طريق العقل عندهم، وجعلتُ الآخرَ لبعض ما رأيتُه عندهم مجافيًا للعقل، لائذًا بما ظنوه أعلى منه، وتعمدتُ أن يجيء القسم الأول أكبرَ القِسمَين؛ لتكون النسبة بين الحجمَين دالةً بذاتها على النسبة التي أراها واقعة في حياتهم الفعلية بين ما وزَنوه بميزان العقل وما تركوه لشطحة الوجدان.
وهنا نجد أن الدكتور زكي نجيب محمود حين هنا حين يحاول أن يحيل على القدماء بنظرة عصره ، فهذه لا تعد نظرة تاريخية سليمة وهو يعترف بذلك ومدرك بذلك ، فهو قد أصبح يحلل التاريخ ليس بنظرة الأديب ولا المؤرخ فقط ولكن الفيلسوف ، فهو ينظر إلى التاريخ الإسلامي على وجه التحديد في القرون الأولى بشكل بانورامي ينتقل بنا من مدينة ، ومن مفكر إلى مفكر ، ليرسم لنا أبعاد المعقول واللامعقول في التراث العربي.
كذلك في تقدير البعض فإن الدكتور زكي نجيب محمود أراد في هذا الكتاب أن يكون توأما لكتابه الآخر ", تجديد الفكر العربي", ، وفي هذين الكتابين الغرض هو إعادة الكرة وإعادة الغزوة ، تلك الغزوة التي ربما قد فشل فيها في كتابه ", خرافة الميتافيزيقا ", ، هذه المرة الجديدة التي يحاول أن يشتبك مع تراث التقليديين ، وأن يبرهن لهم أن هنالك امكانية جديدة للانخراط مع الفلسفة الحديثة واستنباط المعقول من التراث العربي الإسلامي ، ولهذا يقول الدكتور أبو يعرب المرزوقي :", كنا ننتظر أن نسميه العقل واللاعقل ، فلماذا سماه زكي نجيب المعقول واللامعقول ، وهو اسم مفعول ، والذي يعد إشارة إلى أن مشكلة الدكتور زكي نجيب محمود ليس في العقل وإنما في ثمرة العقل ، أي فيما ينفيه العقل من معقولية على معرفة الإنسان بالوجود دون أن يطرح إشكالية طبيعة العقل ، وهي إشكالية ميتافيزيقية ، وهذا علة استغرابي من غياب النقد الكانطي في فكره ، لأن النقد الكانطي يميز بين ما يدركه العقل وبين الواقع الحقيقي.