وصف الكتاب
في هذه الورقة نود أن ندرس الأثر الشرقي في العلم اليوناني بصفة عامة : حيث نبين مدى استفادة معظم اليونانيين من الشرقيين في مجال العلم, وذلك من خلال أجابتنا على هذا السؤال الذى يطرح نفسه بشدة على هؤلاء المناحزين إلى اليونان وهو : لماذا لم يتقدم اليونانيين في المجال العلمي بأسرع مما تقدموا برغم دينهم لأسلافهم الشرقيين ؟
وللإجابة على هذا السؤال نعتقد أنه ربما ان معظم اليونانيين لم يكونوا متهئيين لتلقى التراث العلمى الشرقي الضخم دفعة واحدة , أو أنهم عجزوا عن الإلمام بأحسن ما فيه , بحيث تلقوا مجرد شذرات منه , وبالتالي لم يحصلوا من هذا التراث على الدفعة التى كانت من الممكن أن تنطلق بهم إلى أفاق ابعد بكثير من تلك التى بلغوها .
وأعتقد أن هذا لا يقال على كل فترات العلم اليوناني , وإنما يقال على كل الفترة التى بين 400و330ق.م , وهي التى تتضمن ما قام به فلاسفة اليونان ",سقراط وافلاطون وأرسطو ", من أعمال في مجال العلم , حيث تتميز هذه الفترة بأن الأثر الشرقي في مجال العلم , كان ضعيفاً ومحدوداً في العلم اليوناني في تلك الفترة , بسبب الاعتقاد السائد في أن العلم الشرقي كان يغلب عليه الاستخدام العلمي للمعارف الموروثة, ولكنه لم يكن يملك نفس القدر من البراعة في التحليل العقلي النظري لهذه المعارف.
ومن هنا سعي معظم العلماء والفلاسفة اليونانيين في تلك الفترة إلي جعل العلم نظرياً لا تطبيقياً, وذلك حين أكدوا أن المعرفة العلمية لكى تكون صحيحة , يجب أن تنصب على الحقائق النظرية والعامة , كما يجب أن ترتكز على براهين مقنعة , وأن هدف العلم هو معرفة النظرية التي تسير الظواهر وفقا لها , وليس القدرة على استغلال هذه الظواهر والانتفاع بها في المجال التطبيقي (1).
وعندما أكد اليونايون ذلك كانوا في الواقع يحاولون إبراز سمة أساسية من سمات العلم , وهى أن العلم لا علاقة له بمجال التطبيق , ولا صلة له بالعلم المادي بأكمله و وإنما الواجب على العلم أن يكون عقلي فحسب . فالمثل الأعلي للعالم في نظرهم هو المفكر النظري الذى يستخلص الحقائق كلها بالتأمل النظرى . أما محاوله تدعيم هذه الحقائق بمشاهدات أو ملاحظات أو تجارب نجريها على المحيط بنا , فكانت في نظرهم خارجة عن العلم , بل أنها تحط من قدر العلم وتجعله مجرد ",ظن", أو",تخمين ",, بل ان ", أفلاطون ", الذي كان في الوقت نفسه ذا إلمام واسع بالرياضيات قد عاب علي أحد علماء الهندسة التجاءه إلى رسم أشكال هندسية لإيضاح حقائق هذا العلم , ورأى أن إعطاء علم رفيع كالهندسة صورة محسوسة يمكن رؤيتها بحاسة العين , وهو إنزال لهذا العلم من مكانته العالمية , فيصبح جزء من عالم الأشياء المرئية والمحسوسة , بينما ينبغى لكى يظل محتفظاً بمكانته ألا نستخدم فيه إلا التفكير العقلي وحده , فتظل حقائق الهندسة ",عقلية", على الدوام (2).
ولا شك في أن هناك أسباباً سياسية واجتماعية دعت معظم اليونانيين في تلك الفترة إلى صبغ هذا العلم بهذه الصبغة , وسوف نتحدث عنها خلال هذا الفصل .
ومن ناحية اخرى نود أن نشير إلى تلك الفترة التي كان فيها العلم اليوناني ُمعرضاً وعازفة عن الأخذ بعلوم الشرق , كانت هناك فترات أخرى تمسك فيها اليونانيون بالأخذ عن الشرقيين , وكان فيها العلم اليونانى يجمع بين النظرية والتطبيق وكان هذا العلم في أثنائها يمثل أزهى فتراته .
وتعتبر فترة ", العلم الأيونى ", تلك الفترة المحصورة ما بين 600 و400 ق.م , وقد أطلق العلم ", هيدل ", heidel على هذه الفترة اسم : عصر البطولة ", وفيها كان اليونانيون على إتصال دائم بالشرقيين وعلومهم (3).
على أن هناك فترة أخرى , وهي الفترة المحصورة ما بين 330 و120 ق. م . وفي تلك الفترة عاد العلم اليوناني ينهل من علوم الشرق , والتى فيها ضمت امبراطورية الأسكندر الاكبر العلم اليوناني مرة أخرى في إتصال مباشر مع التراث العلمى في الشرق , حتى وصلت إلى الهند , وأصبحت ", الاسكندرية ", بيتاً للعلم , حيث دعمت مالياً لأول مرة في التاريخ من خلال إقامة المتحف والمكتبة , وأدي ذلك إلى التطور العظيم للرياضيات والميكانيكا والفلك , والتى إرتبطت بـ ",ارشميدس", Archimedes و",هيبارخوس",Hipparchus وغيرهما (4).
ولقد كانت تلك الفترة من أكثر المراحل أهمية في تاريخ العلم اليوناني , إلا أنها للأسف لم تستمر طويلاً بسبب تدهور العلم اليوناني, وتمسك العلماء بالعلم الأرسطي العقيم .