وصف الكتاب
منذ أربعينيات القرن الماضي والعقل الأوروبي يراجع ناقدا نفسه وقد انحسرت هيمنته ، وأخذ يتساءل : فهل استقال العقل الأوروبي عن دورة الحضاري ؟ ... ومنذ ستينيات القرن الماضي ، تفجر بركان الغضب، وشملت الأزمة العقل الغربي بعامة ، واهتزت مقولات رسخت على الساحة الفكرية زمانا، تجاوز القرنين. وبدا أن التاريخ الذي رسم مساره الفيلسوف الألماني", هيجل ", ليس هو الخطاب الصحيح ، وظهرت اليابان، ويلدان العالم الثالث على السطح، بثقافاتها، وتطلعاتها، وجهودها، باحثة عن هويتها وتاريخها ، ناقدة وناقضة مقولات الغرب ، وبدت حضارات هذه الشعوب بتعددها الخصب المتكامل وبعمقها التاريخي العريق خطاباً إنسانياً جديداً في المعرفة .
وتعددت البحوث والدراسات الفكرية والفلسفية والعلمية في محاولات نقدية وتصويبيه للعقل الغربي، وعقل عصر التنوير الأوربي، ولمعت أسماء، وسطعت تيارات فكرية، وسادت نظريات ومناهج بحث، كاشفة عن دور الأيدولوجيات في العلوم الإنسانية والطبيعية معا، وانحيازها الخفي، أو الساخر، دفاعاً عن ثقافة الغرب، وتجسد هذا الانحياز في نظريات وصفت بالأكاديمية، حدثتنا عن العرق الأسمى والعقل الأرقى ، وأن لهما الحق بالوراثة والطبيعية في السيادة على من هم دونها ، وهذا ما يعنى في النهاية سيادة الغرب عقلا وعرقا على العالم أجمع لأنه الأدنى ؛ وارتدينا جميعا قناع الأيديولوجيا الغربية زمنا وكأن فروضها من حيث لا نعى، مسلمات تصوغ رؤيتنا للحياة والتاريخ (1).
أما تاريخياً فقد شكلت علاقة الشرق بالغرب قضية جدلية في الأوساط الفكرية والسياسة العربية والغربية، إذ اختلفت الرؤى حولها باختلاف المرتكزات الثقافية والدينية والظروف السياسية والاقتصادية، فبعد أن كان الحديث أثناء القطبية الثنائية عن ",التعايش السلمي",، و",الحرب الباردة", ، كتعبير عن حالة الصدام والتأزم بين القطبين منذ الحرب العالمية الثانية حتى تفكك الاتحاد السوفييتي، وظهرت أطروحة ",نهاية التاريخ", عند ",فرانسيس فوكوياما", مبشّرة بالديمقراطية الليبرالية كشكل غالب على الأنظمة حول العالم مع نهاية الحرب الباردة، ثم جاءت أطروحة ",صامويل هنتجنتون", حول ",صراع الحضارات",، كرد مباشر عليها، لتنذر بنمط جديد من الصراع ،تحركه الاختلافات الثقافية، والدينية، بدل النزاع القديم بين الأيديولوجيا الرأسمالية والشيوعية، وهو نزاع الغرب مع حضارات محتملة هي الحضارة : الإسلامية، والصينية، إذ اعتبر الشرق، وفي القلب منه العالم الإسلامي مصدر تهديد للغرب ومصالحه ، مما أعاد جدل العلاقة بين الغرب والإسلام إلى نقطة البداية ، وأثارت السؤال من جديد : هل العلاقة بين الغرب والإسلام علاقة صراع أم حوار حضاري (2).
ولم تخل الساحة المصرية من النقاشات حول هذه المسألة؛ فمنذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، حيث كان توجّه معظم المفكرين المصريين، نحو الغرب، وكانوا يرون في الاتجاه غرباً طريقاً لنهضة وتقدّم مصر، وخروجها من حالة التخلف؛ فـ", طه حسين", يرى ضرورة ربط مصر بالغرب من خلال حوض البحر الأبيض المتوسط، وأنّ كلمة ",الخديوي إسماعيل", حول أنّ مصر ينبغي أن تكون قطعة من أوروبا؛ هي هدف ينبغي أن نسعى إليه، وكان", سلامة موسى",، يرى أنّ علاقتنا بأوروبا ينبغي أن تتوطد إذا أردنا أن ننهض، وتطرف حتى دعا إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وأن نكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، وكان يقول: ",أنا مؤمن بالغرب كافر بالشرق", (3).
بيد أنه عندما بزغت الصين وبلاد جنوب شرق آسيا كقوى اقتصادية جديدة في العالم، بدأت المراجعات في الربع الأخير من القرن العشرين لطبيعة العلاقة مع الغرب الاستعماري ؛ وفي إطار هذه المراجعات؛ كانت دعوة ",بطرس غالي",- (1922 - 2016) إلى ضرورة اتجاه مصر إلى الجنوب والعمق الإفريقي، وكانت دعوة ",أنور عبد الملك", - (1924- 2012) إلى ضرورة الاتجاه شرقاً نحو الصين واليابان ودول الشرق الناهضة، وذلك في إطار التوجّه نحو تفكيك المركزية الأوروبية وعلاقة الشرق الأوسط بها (2).