وصف الكتاب
يُحتفى الآن في الأدب العربيّ الحديث بالنصوص السرديّة وبخاصّة الرواية احتفاءً كبيرًا، إلى درجة يمكن القول فيها إنّ عصرنا هو عصر الرواية؛ فالرواية نوع أدبيّ انتزع الاهتمام، ونجح خلال مدّة وجيزة في الاستئثار بالمكانة الأولى في الآداب العالميّة، وذلك لا يعود إلى قدرتها في تطوير وسائل السرد وأساليبه فحسب، بل إلى قدرتها الفائقة في تمثيل المرجعيّات الثقافيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة، وهو أمر فاق قدرة الأنواع الأدبيّة الأخرى التي انحسر دورها، فكفّت إلى درجة بعيدة عن الإسهام في تمثيل التصوّرات الكبرى عن الذات والآخر.
يمكن عدّ الرواية من ",المرويّات الكبرى", التي تسهم في صوغ الهُويّات الثقافيّة للأمم، بسبب قدرتها على صوغ التصوّرات العامّة عن المجتمعات والحقب التاريخيّة والتحوّلات الثقافيّة، فروايات الفروسيّة الأوربيّة علامة رمزيّة دالّة على العصر الذي ظهرت فيه، ورواية القرن التاسع عشر في روسيا وإنجلترا وفرنسا كشفت عبر التمثيل السرديّ الأنساق الثقافيّة والاجتماعيّة لتلك المجتمعات، وصوّرت الرواية العربيّة في القرن التاسع عشر الحراك الاجتماعيّ، بما في ذلك منظومة القيم العامّة والذوق الأدبيّ السائد، والتصوّرات الجماعيّة عن الذات والآخر. وتخوض الرواية العربيّة الآن تجربة الرهانات الكبرى في التمثيل، فتسهم في صوغ تصوّراتنا عن عالمنا بأنساقه الثقافيّة والقيمة والدينيّة، وصراعاته وتناقضاته الكبرى.
على أنّ استقرار النوع الروائيّ ينبغي إلاّ يمحو الصعاب التي واجهته، فلم تنتزع الرواية شرعيّتها الثقافيّة، إلاّ بعد أن ترسّخت، نسبيا، المعالم الأساسيّة للحداثة، ومنها مؤسّسة الدولة والحقوق المدنيّة والهُويّات الفرديّة، وحيثما كانت تلك المعالم هشّة فقد قوبلت الرواية بصدود عامّ. وندر أن جرى الاعتراف بها في المجتمعات التقليديّة إلاّ باعتبارها جزءًا من الأدب الوطنيّ أو القوميّ، وجرى إغفال وظيفتها التمثيليّة.
من الصحيح أنّ المجتمع الأدبيّ يحتفي بالرواية، ولكنّ شرعيّتها الثقافيّة ينبغي أن تمنح من السياق الاجتماعيّ الحاضن لها، وليس من جماعة المشتغلين بها وبشؤونها، ومهما كان الحال فقد عبرت الرواية تخوم الشكّ بقيمتها الأدبيّة، وتخطّت النظرة الدونيّة إليها، وصارت نوعًا جديرًا بالتقدير، وهي في طريقها لانتزاع التقدير الكامل، باعتبارها لبّ الأدب السرديّ في العصر الحديث.