وصف الكتاب
أنتجت القرون الوسطى مرويات ثقافية تضمنت تصورات شبه ثابتة للأعراق والثقافات والعقائد، وكانت تلك التصورات تمثل معياراً يتدخل في رفع قيمة ما أو خفضها لدى أي مجتمع أو ثقافة. في هذا الإطار يأتي كتاب ",المركزية الإسلامية", الذي نقلب صفحاته، حيث يعرض الرواية الإسلامية للذات والآخر، مؤكداً على فكرة أساسية، وهي أن المركزيات تصاغ استناداً إلى نوع من التمثيل الذي تقدمه المرويات الثقافية (الدينية والأدبية والتاريخية والجغرافية والفلسفية والأنثروبولوجية) للذات المعتصمة بوهم النقاء الكامل، والآخر المدنس بالروائية الدائمة، فالتمركز هو نوع من التعلق بتصور مزدوج عن الذات والآخر، تصور يقوم على التمايز والتراتب والتعالي يتشكل عبر الزمن بناء على ترادف متواصل ومتماثل لمرويات تلوح فيها بوضوح صورة انتقيت بدقة لمواجهة ضغوط كثيرة.
وقد كان الباحث من قبل قد عرف في كتاب ",المركزية الغربية", بالتفصيل الرواية الغربية التي تشكلت في القرون الأربعة الأخيرة للتاريخ الغربي، تلك الرواية التي أنتجت غرباً متمركزاً يوافق الرؤية الرغبوية للذات والعالم خارج مجال الغرب، مستنطقاً فيه المرويات الثقافية الغربية (الفلسفية والتاريخية والجغرافية)، وفي الحالتين، تتكشف للباحث الطريقة البارعة للسرور التي تنتظم حول حبكة دينية أو ثقافية أو عرقية مخصوصة، فتخضع كل عناصر السرد لخدمة تلك الحبكة التي تظل يقظة في إثراء تمجيدي للذات، وإثراء تبخيس للآخر. وهذا يسوغ للباحث أهمية الانطلاق من واقع العالم اليوم من أجل كشف الأسباب التي تتبلور فيها أفكار التمركز، كما هو الأمر بالنسبة للمركزية الغربية، أو الأسباب التي يعاد في ضوئها أمر توظيف المركزية الإسلامية في الرهانات والسجالات القائمة في عصرنا.
إنّ العودة إلى المدوّنات الكبرى في الثقافة الإسلامية، طوال القرون الوسطى، تبين بجلاء أن صورة الآخر مشوّشة، مركّبة بدرجة كبيرة من التشويه. فالمخيال الإسلامي المعبّر رمزياً وتمثيلياً عن تصوّر المسلمين للعالم خارج دار الإسلام، قد أنتج صوراً تبخيسية للآخر، فالعالم بالنسبة لذلك المخيال غفل، مبهم، بعيد عن الحق، وهو بانتظار عقيدة صحيحة تخلّصه من ضلاله، ولا تخفى التحيّزات الخاصة بذلك التمثيل، الذي استند إلى آلية مزدوجة الفعالية أخذت شكلين: ففيما يخص الذات أنتج ",التمثيل", نوعاً من ",الأنا", النقيّة، الحيويّة، المتعالية، والمتضمّنة للصواب المطلق، والقيم الرفيعة، والحق الدائم؛ فضخّ مجموعة من المعاني الأخلاقية المنتقاة على كل الأفعال الخاصة بها، وفيما يخص الآخر أنتج ",التمثيل", ",آخر", يشوبه التوتر والالتباس والانفعال أحياناً، والخمول والكسل أحياناً أخرى، وذهب فيما يخص الأقوام في المناطق النائية إلى ما هو أكثر من ذلك، حينما وصفهم بالضلال والحيوانية والتوحش والبوهيمية، وبذلك أقصى المعاني الأخلاقية المقبولة عنده، واستبعد أمل تقبّل النسق الثقافي له، فحُمّل الآخر، من خلال تفسير خاص، بقيم رتّبت بتدرّج لتكون في تعارض مع القيم الإسلامية. وبذلك اصطنع ",التمثيل", تمايزاً بين الأنا والآخر، أفضى إلى متوالية من التعارضات التراتبيات التي تسهّل إمكانية أن يكون الطرف الأول في اختراق الثاني، وتخليصه من خموله وضلاله وبوهيميته ووحشيته، وإدراجه في عالم الحق؛ وهذه نتيجة تنتهي إليها كل المركزيات الثقافية والعرقية والدينية.