وصف الكتاب
ذكرنا في كتابنا حروب الجيل الرابع وجدل الأنا والآخر كيف إنطلق ",جين شارب", في كتاباته عن حرب اللاعنف والمقاومة المدنية، من أن الحكومة ( في النظام المستهدف) تعتمد في الأساس على طاعة المحكومين وتعاونهم، وأيٍ خلل في هذه الطاعة يترتب عليه تفكُك وتحلُل في قوة النظام، إلى درجة فقدان السلطة، والسيطرة على زمام الأمور؛ وعليه يعتبر رفض التعاون مع النظام أمراً خطيراً وأداة سلمية ناجعة لقيادة الثورة والاحتجاجات والعصيان المدني. وبهذا أضحي ",شارب", هو مؤسس نظرية حرب اللاعنف، أو نضال اللاعنف، أو الثورات السلمية.
ولقد لقيت أفكار ",شارب", رواجاً منقطع النظر لدي صناع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث", بدأوا يفعلوا آرائه وأفكاره علي أرض الواقع ؛ فوجدنا الملياردير اليهودي ",بيتر أكرمان", Peter Ackerman (صاحب اختراع لعبة فيديو شهيرة تعرف باسم قوات أكثر نفوذ أو كيف تهزم الدكتاتور)، يسعي جاهداً إلي تفعيل أفكار وأساليب معلمه جين شارب حول حرب اللاعنف، وتكتيكات العصيان المدني، وآليات إسقاط الأنظمة علي الدول الحليفة للاتحاد السوفيتي", (1) ؛ وبالأخص بعض دول أوربا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ويوغسلافيا، وليس صدفة أن تكون كل تلك الدول خارجة من تجارب اشتراكية مختلفة، ولذا رأي أكرمان أن تلك الدول يمكن أن تمثل الأرض الخصبة التي تتم فيها تحويل أفكار وتكتيكات جين شارب إلي تجارب مرئية محسوسة؛ بحيث تؤدي إلي تفكك دول أوربا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبالفعل", نجح أكرمان بمعاونة الملياردير", جورج سورس", في تدعيم أفكار جين شارب، بحيث يصبح كتاب", من الدكتاتورية إلي الديمقراطية", هو إنجيل كثير من الثورات الملونة Colo r Revolutions وتم اعتماده كمانيفستو لحركة", أوتبور", Otopo r - أي المقاومة - في صربيا، و(كمارا) (Kmara) (كفى) في جورجيا و(بورا) (Po r a) (حانت الساعة) في أوكرانيا، و(كلكل) (kelkel) (النهضة) في قيرغيزيستان، تطبيق هذه الأفكار الاستراتيجية التي تحقق أهداف الولايات المتحدة بدون تدخل عسكري مباشر", (2).
وقد نجحت تلك المحاولة في تأجيج الثورات الملونة في أوربا الشرقية ؛ حيث استخدم المشاركون في هذه الثورات المقاومة السلمية، والاحتجاجات، والمظاهرات، مع استخدام وشاح ذي لون محدد، أو زهرة كرمز. وفي نظرة سريعة علي أبرز الثورات التي شهدها القرن الواحد والعشرون ، نري أنه كان لدول الشيوعية ، أي", جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً نصيب وافر منها ولا يخفي علي أحد أن هذه الدول مناوئة للغرب؛ وبالأخص الولايات المتحدة ، ففي جورجيا مثلاً كانت ",الثورة الوردية", عام 2003 ، وفي أوكرانيا كانت ",الثورة البرتقالية", عام 2004 ", (3) ، وفي قيرقيزيا عام 2005 كانت ",ثورة التيوليب", ، وفي نفس العام انتقلت الحركة إلي دولة عربية صغيرة هي لبنان في أعقاب رئيس الوزراء اللبناني ",رفيق الحريري", ، فكان أن طالب قسم من اللبنانيين بانسحاب الجيش السوري وخرجت المظاهرات إلي الشارع تحت عنوان ",ثورة الأرز", ، وفي عام 2007 تحركت المعارضة في ",ميانمار", فيما يسمي بـ ",ثورة الزعفران", ، أما في التبت فقد اندلعت أعمال شغب عام 2008 وسميت بـ ",الثورة القرمزية", (4). وهذه الثورات لم تحدث من قبيل الصدفة ",، بل جاءت", نتيجة لتنفيذ مشاريع محددة قامت بها الولايات المتحدة لإعادة بناء العالم عقب سقوط الاتحاد السوفيتي", (5).
وكان التكتيك المستخدم في تلك الثورات يقوم علي ",عملية تغيير النظام تحت ضغط احتجاجات واسعة في الشوارع وتمويلها بدعم من المنظمات الأجنبية غير الحكومية", (6)، وبالتالي تكون ",الثورات الملونة", على أرض الواقع، تكنولوجيا تنظيم الانقلابات في مختلف الدول، في ظروف الزعزعة المتعمدة والمصطنعة للاستقرار. ويجري خلال ذلك الضغط على سلطات هذه الدول على شكل الابتزاز السياسي، وأما وسيلة هذا الابتزاز، فهي ",ممثلة بحركات الشباب الاحتجاجية التي تنظم وفق مخطط محدد، والهدف الوحيد لأية ثورة ملونة هو دائماً تنظيم الانقلاب على السلطة مع تصوير ذلك كظاهرة احتجاج عفوية وكفعاليات جماهيرية عفوية للعصيان المدني، والشرط الضروري والحتمي لنجاح الثورة الملونة – زعزعة الاستقرار السياسي الذي يمكن أن يتحول إلى أزمة سياسية تامة", (7).
بيد أن التحولات الثورية التي شهدتها دول أوربا الشرقية في أواخر الثمانينات، من خلال الثورات الملونة، واستمرت حتي علم 2009، لم تكن هي الأولي من نوعها ؛ حيث أن هذه التحولات كانت متوقعة، لأنها نتاج حلقة متصلة من محاولات سابقة منذ أحداث تشيكوسلوفاكيا في سنة 1948، إلي الارهاصات الثورية التي بدأت تجتاح بولندا منذ عام 1979، ومروراً بثورة العمال والطلبة في ألمانيا الشرقية في عام 1953، وثورتي المجر وبولندا عام 1956، وثورة تشيكوسلوفاكيا عام 1968. فليست هذه إذن هي", المرة الأولي التي تنتاب فيها أوربا الشرقية حركات ثورية كان من شأنها أن تؤثر في علاقاتها مع الاتحاد السوفيتي ومع الدول الأخرى", (8).
وهنا نجد أن الاتحاد السوفيتي وإن كان قد سمح لدول أوربا الشرقية والوسطي بقدر من الحرية في إدارة شؤونها القومية بما يتفق وأوضاعها الخاصة ، إلا أنه لم يتوانى عن التدخل قسراً للحد من هذه الحرية عندما شعر أن أسلوب الممارسة سوف يؤدي إلي تقويض التكتل السوفيتي في مواجهة التكتل الغربي، وهذا بالفعل ما قام به (ستالين) ", عندما رفض تلك التحولات الثورية ، وبادر بوضع خطوات استباقية لدحر هذا الأمر، فأخذت سياسته تهيمن تسعي بقدر المستطاع للهيمنة علي أوربا الشرقية والوسطي واخضاعها", (9).
وعقب سقوط الاتحاد السوفيتي بدأت الأمور في أوربا الشرقية تأخذ منحني آخر عما كان عليه الوضع في عهد الاتحاد السوفيتي ، فإن عدوي التغيير سرعان ما امتدت إلي تلك الدول ، وكانت ",بولندا", بحكم تجربتها الذاتية الثرية والطويلة في هذا المضمار ، أكثرها استعداداً للتأثر به والتفاعل معه. ومنها انطلقت الشرارة التي فجرت هذه الثورة السياسية الاصلاحية العارمة التي اجتاحت معظم أقطار أوربا الشرقية ولا تزال تفاعلاتها في تصاعد مستمر. ففي أغسطس 1989 صدق البرلمان البولندي وبأغلبية ساحقة علي تنصيب ",تادوش مازوفيتسكي Tadeusz Mazowiecki ", الكاثوليكي وغير الشيوعي ومستشار زعيم نقابات ", تضامن", تادوش، رئيساً لأول حكومة بولندية لا يتزعمها الشيوعيون منذ أكثر من أربعين عاماً . كان هذا التطور المذهل علي الساحة السياسية في بولندا، ",يعني ببساطة أنه قد تم إنهاء احتكار الحزب الشيوعي للسلطة ، هكذا وللمرة الأولي ، في دولة تابعة لحلف وارسو بعد تاريخ حافل من الضبط العقائدي الجامد، الذي لم يعرف التسامح حول هذا الأمر بالذات باعتبار أنه يشكل مقوم الربط الرئيسي بين تلك البلدان الاشتراكية والقاعدة التي يستند عليها تضامنها ..الخ ",(10).