في هذا البحث سنعالج مسألة متشابكة، لأن خيوطها تعد متداخلة مع مفهوم أو مفاهيم أخرى، هذه المسألة هي مشكلة عالم الأفكار ودوره في حركة التاريخ عند مالك بن نبي، ففي الوقت الذي يعتقد فيه أن التاريخ هو أحداث الماضي، فهو بمعنى آخر يرسم معالم المستقبل، لا سيما عندما ينظر للحركة التاريخية كما أسس لها كل من ابن خلدون وهيجل وكارل ماركس وتوينبي، وهو الأمر الذي يبدو معقدا خاصة عندما نستعين بهؤلاء المنظرين للفكرة التاريخية ونتناولهم من خلال النقد الموضوعي لنؤسس للعالم الإسلامي تنظيرا جديدا يخص سير الحركة التاريخية، وهذا العمل في حد ذاته صعب المنال حين يعالجه مالك بن نبي اعتمادا على تحليلاته لعدة مفاهيم، يأتي في مقدمتها الأساس الذي تنبني عليه الحركة التاريخية، والتي رآها في ما سطره توينبي من عاملي التحدي والاستجابة، لكن ابن نبي يجعل من عاملي التحدي والاستجابة عاملان يهتديان بهدي القرآن الكريم، فهناك تحليل للعوالم الثلاثة الذي تعتمد عليه كل حركة تاريخية، هذه العوالم الثلاثة هي العمل الذي يقوم به عالم الأفكار وعمل عالم الأشخاص وكذا عمل عالم الأشياء، هذه المصطلحات الثلاثة التي اعتمدها ابن نبي في تحليلاته لما يؤسس للعمل التاريخي، ومالك بن نبي بهذا ينتقل بنا إلى الأنموذج الذي طبقت فيه هذه العوالم الثلاثة، إنه أنموذج الحضارة، ليقف طويلا محللا مفهومها الوظيفي ومفهومها التاريخي، ومن هنا يمر إلى مراحل الحضارة انطلاقا من مرحلة ما قبل الحضارة، فالحضارة، ثم فما بعد الحضارة، وهذه المراحل يرسم معالمها على محور الزمن ، فيراها مثلا قد مثلت في الحضارة الإسلامية، في مرحلة الروح التي جسدتها نفخة غار حار، ومرحلة العقل، التي بنى أسسها العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، أي من العصر العباسي إلى أيام عصر الموحدين، ومرحلة الغريزة التي أسس لها عصر ما بعد الموحدين، إلى بدايات عهد الاستعمار الأوربي للبلاد الإسلامية، وهي نقلات في التاريخ والحضارة، ولا يتعلق الأمر بالحضارة الإسلامية فحسب ، بل ينطبق الأمر أيضا على كل الحضارات، بمعنى أن الحضارات في نظر ابن نبي مرت بهذه المراحل الثلاث : من مرحلة الروح ثم العقل، فالغريزة.

لماذا تتدهور حضارة وتقوم أخرى ؟ وما هو موقع العامل الديني من حركة التاريخ ؟ وما هي مميزات وخصائص الحركة التاريخية ؟ إذا كانت الحركة التاريخية هي خلاصة جدل قائم بين الفكرة وونقيضها فما هي الغاية من هذا الجدل ؟ كيف نفسر حركة التاريخ؟ هل هناك مسار موضوعي للحركة التاريخية ؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول أن نجد لها جوابا في فكر مالك بن نبي من خلال طرقه من حين لآخر لفكرة التاريخ، وللحكرة التاريخية، وكيف يمكن لها أن تؤول نحو غاية يسميها الحضارة ؟