وصف الكتاب
جرت العادة أن يهدي الأدباء ما تخطه أقلامهم إلى أناس تجمعهم بهم معاني الود والحب والصداقة، أما أن تجد كتاباً يهديه مؤلفه إلى من جرحه أو آذاه أو كذب عليه وخدعه، ذلك هو ما أرادته الكاتبة العراقية ",إيمان أكرم البياتي", في مجموعتها القصصية الرائعة ",حفل تأبيني لذاكرة ما", وهي تقول:
",... ...اليوم وأنا أكتبُ عن الذاكرة والذكريات، وعمن مروا في الحياة خلال دروبها، أجد من الأجدر أن أقدم الكتاب هدية للصنفين معاً، فالذاكرة لا تمتلئ بصور الأحبة والأخيار فحسب، بل هي فيلم روائي تختلفُ فيه ألوان قلوب المؤدين، كاختلاف ألوان وجوههم، وأحجام أدوارهم، وكعمق تأثيرهم على مسيرتنا اليوم، وتطلعنا نحو الغد.وتتابع: أهدي مجموعتي القصصية الثانية (حفل تأبيني لذاكرةٍ ما) إلى كافة من تعج أصواتهم وصورهم الذاكرة ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، أقارب وأصدقاء... وغير أولئك؛ على اختلاف أهمية أدوارهم في حياتي، لأن هذا الكتاب سيكونُ آخر عهد للبعض منهم مع الذاكرة! ومع طباعة هذا الكتاب أكون قد شيدت للبعض قصوراً في القلب، وأقمتُ للآخر حفلاً تأبينياً ومدافنَ لرمادهم تحت البحر حيثُ طريق اللاعودة!...",.
قدم لهذه المجموعة القصصية الكاتبة والإعلامية العراقية ",رشا فاضل", بعنوان سيال (إيمان البياتي) من ظلال البوح... إلى قلب الأفق.
تقول فاضل: مثل زهرة وحشية تنبت فوق الخرائب، تشاكس الرماد بيناعة حمرتها، تخرج إيمان البياتي بحكاياتها، لتكون وريثة شهرزاد بامتياز القص/الحكي، الذي أجادته ورسمت به جداول وطن مراق، وأحلام مذبوحة لا تنفك عن ترقب انبعاثها من جديد، هو صوتها الهادئ ينبعث ما بين السطور، يغري بالسكينة، ويضرم الأسئلة في فضاء الصمت. يحمل تلك الذاكرة الجمعية التي تستنزف مكنوناتها على الورق، حكايات، من نار ورماد.
عاشقات يتدثرن بخيبة الأحلام، وأخريات يمارسن انتظارهن الصعب لظل مستحيل؛ يأتي ولا يأتي، وأوطان تختبئ تحت ظلال الجدران، وجدران يكفر أبناؤها بتاريخها بعد أن أفلسهم الحاضر. ولا تنفك البياتي عن ممارسة تلك اللعبة السردية في القصّ، وهي تغور في شخصيات أبطالها دون مصادرة لحرياتهم أو تقمصهم. وقد يكون ذلك من ابرز ما تميزت به هذه المجموعة، حيث يغيب فيها صوت الكاتب، ليأخذ البطل حريته في الانتقال على صفحات الورق، وكأنها تبتكر وطناً، حلماً، ملاذاً جديداً يمنح لكلٍ صوته، ويعيد لكل وجه ملامحه. ومن هذا الأفق الافتراضي تنطلق الحكايات، وتغيب الأجناس، فلا نكاد نميّز سوى صوت البطل بلا ظلال الراوي العليم الذي يندس ما بين السطور بكل دكتاتورية، مصادرا أصوات الأبطال الحقيقيين، أولئك الذين يكتبون حكاياتنا في ذاكرتنا المتوردة بالخيبات الحميمة، تلك الخيبات التي أينعت كل هذه القصص، الكامنة في عتمة الحبر حينا، وفي زرقته حينا آخر، في هذه المملكة السردية التي تضم الشعر والقصة والتأريخ في نص واحد، يحمل هوية القصة القصيرة، حيث تتمظهر مقدرة الكاتبة على المزاوجة بين ألوان الكتابة، لتولد قصتها ببصمة خاصة وبرمزية عالية، تعمّق الفكرة وتؤكد على ترابطها، كما يتضح ذلك في نص (مدينة الجدار) حيث تتجلى تلك الصياغة التاريخية التي تروي تاريخا متشابها متداخلاً، برمزية تؤطر المعنى ولا تضيعه ضمن سياق سردي لا يذهب بعيداً عن دائرة الشعر. وإذا تأملنا ثيمة المجموعة بإطارها العام، سنجدها تسير وفق نسق يتنوع في شكله، غير انه يحمل ترابطا ضمنياً في محتواه، مرتكزا على المرحلة الزمنية الراهنة، التي كُتبت فيها هذه المجموعة. وما أفرزته هذه المرحلة من إرهاصات وإشكاليات وأسئلة، وجدت طريقها لتتجسد في نصوص مجموعة (حفل تأبيني لذاكرة ما)، كما لو إنها أنهار متفرعة تصبّ في مجرى واحد. ولعل تلك الانتقالات الرشيقة بين الأحداث، وذلك الوصف الدقيق للتفاصيل، هو ما يميّز الكاتبة إيمان البياتي فيما استخدمته من تقنيات سينمائية، رسمت لنا الحدث القصصي بمهارة وتفرد، يجعل لهذه المجموعة أهميتها واستحقاقها لأكثر من وقفة نقدية، سيما أن الكاتبة لم تنضوي تحت خيمة الهموم النسائية فحسب، بل تجاوزتها إلى آفاق أوسع وأشمل، لتنطق بكل تفاصيل الحياة، مؤكدة على أن النص القصصي قادر على احتواء الحياة بتناقضاتها، وان الكتابة النسوية - إذا جاز التعبير - قد خرجت من تلك القوقعة، التي اتخذت من الرجل ثيمة أساسية في معظم منجزها. وما قصص البياتي إلا تأكيد على هذا الانفتاح، برؤية حداثوية أجادت الكاتبة توظيفها، منذ العنوان وحتى آخر حرف يسدل الستار على تلك الذاكرة، التي تجلت قصصاً بإيقاع الموسيقى، ورائحة الشعر.