وصف الكتاب
وفي هذا الباص، ومن مقعده يتمعن عبود العجيلي (أبو ليلى) بالمدنيين نساء ورجالاً وأطفالاً، وهم يتقاطرون من الأحياء الشرقية ليستقلوا باصات الإخلاء حسب اتفاق النظام والمعارضة. وخلال تأمله حركة النازحين تلك، يتذكَّر كيف مزّقت الحرب عائلته، من مقتل حفيدته تحت القصف، إلى مقتل زوجته في المستشفى، ثمَّ التحاق أحد أبنائه بالمعارضة، الذي أعاده لتذكّر ابنه الآخر، الجندي في جيش النظام السوري، الذي قتل أثناء حرب المخيّمات في بيروت منتصف الثمانينيات، وثمّ لجوء ابن آخر له إلى أوروبا، ومحنة ابنته الوحيدة ليلى زوجة الطبيب الجراح فرهاد الذي يخطفه عناصر داعش.وعبر حكايات الصور التي تنزف ألماً، والعائلة التي تمزقت كما البلاد، تطفو على السطح حكاية لكل واحد من أفراد الأسرة، فليلى تفقد النطق بعد أن ترى بأم عينيها ابنتها ميسون نصفين، بفعل شظية من برميل متفجر، بينما كان زوجها فرهاد الطبيب الجراح قد اختطفت من قبل مسلحي داعش.
أما الابن الأكبر للعجيلي، ويدعى عبد الناصر، فكان جندياً في الجيش العربي السوري، وقتل خلال الحرب الأهلية في لبنان، أثناء مشاركته حركة أمل في الهجوم على مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، قبل ما يقارب الثلاثين عاماً، في حين أن ابنه عمر انشق عن الجيش السوري والتحق بالجيش الحر في ربيع العام 2012، وانقطعت من بعد ذلك أخباره، وسط تكهنات عدة حول مصيره.
عاصم الذي فر رفقة أسرته إلى تركيا، حيث تركهم متوجهاً إلى أوروبا عبر بحر إيجة، وحط في اليونان بسلام، قبل أن تنقطع أخباره هو أيضاً، بينما شقيقهم علي ابن العجيلي، عازف البزق، فذهب إلى حيث أخواله في عفرين، وهناك استهوته الثورة في بداياتها، لكنه تركها حين ابتعدت عن سلميتها، فحمل البزق خاصته، وهاجر، وانقطعت أخباره كما سابقيه.
مع انطلاق الباص تحدث أمور غريبة، غير أن العجوز لا يأبه بشيء، يظلُّ يمتعّن في مجموعة من الصور جلبها من بيته الذي نهبه اللصوص، ومن خلال هذه الصور نتعرّف أكثر على الأحداث التي مرَّت على حلب وعلى أصحاب الصور.
",كان الباص يسير من دون سائق، شكّ في أمر عينَيْه، فركهما من جديد، أطبق جفنَيْه لبضع ثوانٍ، ثمّ فتحهما، فلم يجد أثراً للسائق.
التفت إلى يمينه، ليتأكد من أنَّ الباص يسير، فازداد رعباً حين رأى أن نافذة الباص تحوّلت إلى مرآة كبيرة. دقّق في وجهه، فلم يجد ملامحه. كان وجهه خالياً من الأنف والفم والعينَيْن. فقد (أبو ليلى) وجهه. مدَّ يده بخوف إلى أنفه وفمه، ثمّ عينَيْه، فوجد كلَّ شيء في مكانه. عاد للتحديق في النافذة، فتكرَّر الأمر: وجهه سطحٌ مستوٍ بلا ملامح، كأنه نصف بطّيخة. خفق قلبه بعنف حتّى سمع دقّاته، وكاد ينخلع من صدره. نظر مرّة أخرى إلى جهة السائق، فلم يجد أحداً.
شعر بجسمه ثقيلاً متخشّباً ملتصقاً بالمقعد، لا يستطيع أن يبارحه. لم يُصدِّق ما رأتْه عيناه. حتّى نظر إلى جهة السائق.
غير معقول ما يحدث هنا. خلِّصني يا ربّ.",