لا يُمكنُك أنْ تتزوجَ منْ فتاةٍ وضَعْت أمُّها لسانَها في فمك ذاتَ يومٍ، وتمضي حياتُك بسلامٍ، دون وقوعِ كارثةٍ ، ربما يستطيعُ شيطانٌ خَرجَ من صُورته النارية لألطافٍ نُورانيةٍ، أن يدخلَ تجربةً كهذه، ليكون رجلاً ويدفع ثمناً باهظاً لخطيئةٍ، أنبتَتْ خطيئةً بعد خطيئةٍ، وسمح لنفسه أن يدخلَ تجربةً لن يخرجَ منها إلا كلوحِ زجاجٍ مُهشَّمٍ.
مرَّ شهرٌ بعد شهرٍ، جَفَّ العسلُ في الإناء، أو هزمني المللُ، صارت مَريمُ كطعامٍ ممضُوغٍ، وصارتْ كلماتُ وتلميحاتُ وتصرفاتُ أمها كحزمةٍ ديناميت، يكفي أن تتعرَّقَ لينفجرَ المكانُ، العشقُ القديمُ فَقَدَ قَدرته على الصبر، وزينبٌ الوحيدةُ الظامئةُ تُوشكُ أنْ تنفجَر في لحظةِ طيشٍ كذئبةٍ جائعةٍ وتُمزِّقُني، كانت تستعرضُ مفاتنها قائلةً: حماتك حلوةٌ وصغيرةٌ يا كامل.
كان الامتحان قاسياً، ولابد أن تخرجَ الشعرةُ من العجين.
...
...
...
دمياطُ رحيمةٌ رغم الوحدة والفشل وعودة الخائب، احتضنتُ مدينتي الحبيبة، خليةُ النحل التي كانت تطن ليلاً ونهاراً، غرقت في الصمت يوماً بعد يوم، يابان مصر تحولت ورشٌ كثيرةٌ بها إلى مقاهٍ ومحلات بقالة ومعارض سيارات، الأسواق العربية التي كانت تفتح آلاف البيوت في مدينتي وتضخ الرخاء في شرايين بلادي، أغلقت أبوابها سوقاً بعد سوق، الربيعُ العربيُ أخرج أسواق العراق وسوريا والسعودية واليمن والسودان وليبيا من المعادلة، سعر طن الأخشاب ارتفع من ألفي جنيه إلى عشرة آلاف جنيه خلال عامين، الورش الصغيرة لم تصمد، نساءُ وبناتُ دمياط صِرن يسرحن كفتيات الحقول في الماضي لجمع دودة القطن، لكنهن صرن يتكدسن لانتظار أتوبيسات مصانع الملابس وضفائر أسلاك السيارات التي أقيمت في بورسعيد، زحف الفقر والعوز والعمل الكادح الذي لا يثمر شيئاً سوى الإرهاق والمعاناة والتعب واليأس، واسودت صفحات الحوادث في الجرائد الإليكترونية والورقية بأخبار الانتحار.
الفسادُ ينمو ويكبُر وحلمُ الحرية للشعوب الطيبة أشبه بهروب عجلٍ من الجزار أمام الحظيرة ليهرول هائجاً ليدخل السلخانة بعمى البصيرة.
دمياطُ تموتُ ببطء، وأشياء جميلة عظيمة تموت أيضا، كانت تسمى أخلاقاً ذات يوم، الخذلانُ سيدُ الموقف اليوم، الثورةُ أسقطت رئيساً لكن بقي الموظفُ، بقى النظامُ المائلُ الأعوجُ، تذكرتُ محفوظ البدراني وكلمته العجيبة الممرورة، مصرُ محتلةٌ من خمسة ملايين موظف، أفقتُ من شرودي عندما لطمت قدمي موجةٌ لطيفة وأنا أجلس على شاطئ البحر ليلاً، لأرى صديقي أمامي.
- أستاذ محفوظ.. ناديته ووقفت لأرحب به.
- أهلا كامل والله زمان ماذا تفعل؟.
- تغيير جو كما ترى، كنت في سيرتك مع نفسي والله، تفضل يا أستاذ محفوظ ، قهوة سادة والا...
- الله يسعدك، يوسفي.
- أنا قرأت عن عبقرية سعد الدين الشاذلي وعن خطة المآذن العالية وكنت أحب أنْ أسمع منك تفاصيل أكتر، هذا البطل العظيم تعرض لظلم فادح وسرقوا الانتصار منه وتجاهلوه وأبعدوه.
- ما تزال مشغولاً بالحرب وذكرياتها يا كامل!
- فقط.. حباً في المعرفة وإدراك الحقيقة.
- هل تعرف أننا هاجمنا خط برليف بمئتي طائرة وقاذفة وكل المواقع والدشم الحصينة في سيناء، عندما علم حاييم برليف أن قواربنا المطاطية بدأت العبور قال :المصريون أرادوا الانتحار فليكن لهم ما أرادوا وانتظر أن تحترق قناة السويس بنا عندما يتدفق السائل الحارق من خزانات دشم خط برليف للمواسير المخفية تحت الماء لكننا كنا أغلقناها قبل الهجوم وأصابته صدمة مذهلة.
لقد كسرنا رقبة إسرائيل في ستة أيام، تماما كما كسرت رقبتنا في ستة أيام، اليوم الثاني عشر من أكتوبر عام ثلاثة وسبعين كان اكتمال الانتصار الساحق على إسرائيل، ملأنا مدنها وبيوتها بالأرامل واليتامى، وانهار موشي ديان وبكت جولدا مائير كما لم تبك في حياتها من قبل.
رغم الإخراج الجيد للفيلم الأمريكي في (الدفر سوار) وحصار الجيش الثالث لثلاثة أشهر الذي أخرجه هنري كسينجر، لتبدو إسرائيل منتصرة أو استعادت توازنها، والمحاولات المستميتة لاحتلال السويس أو الإسماعيلية ليبدو الأمر نصرا إسرائيليا كبيرا.
- بلا شك ستظل إسرائيل مدينة لكسينجر أكثر من تيودور هيرتزل أو بلفور، لولا كسينجر واخلاصه لليهودية وتوجيهه للرئيس الأمريكي نيكسون ومد الجسر الجوي عبر المياه الدولية من أمريكا لإسرائيل والعريش لربما كانت إسرائيل غير موجودة اليوم بخريطتها الحالية، اللوبي اليهودي استخدم الأموال الهائلة لدعم إسرائيل بوجه مكشوف في تحد سافر للعالم كله لكن عبقرية كسينجر أنقذت إسرائيل وقامت الطائرة الحديثة اس آر واحد وسبعون بتصوير الجبهة وكشف الثغرة في (الدفر سوار) رغم أن قادتنا كانوا يعرفونها كنقطة ضعف وكثغرة قبل الحرب، وأعدوا خطة مواجهة ووضعوا عدة ألوية مدرعة غرب القناة، لكن للأسف تم تفتيت هذه القوات الاحتياطية وضم كل قائد لواء جزء من الاحتياطي لقواته المهاجمة في سيناء ووقعت الكارثة.
- أنت مهووس بالحرب وأسرارها وبالمعرفة والكتب يا كامل.
- عشقي للقراءة هوس قديم منذ الطفولة لا أجد له تفسيرا، لكنني أؤمن أن القراءة هي الديانة السرية للكاتب، لم تحدثني عن الأسرى أبدا.
- لقد سحقنا إسرائيل ومرغنا أنفها في وحل الدماء والهزيمة لكن فجأة توقفنا وبدأنا نحصل على أسرى. لقد استطعنا أن ننظر في وجوه جنود إسرائيليين دون أن نقتلهم. استطعنا أن نطعمهم ونسقيهم ونعاملهم معاملة حسنة، لقد تساءلت كثيرا بداخلي كل هذه الدماء وهؤلاء الشهداء وهذا الدمار من أجل ماذا؟
- ذكرتني بإجابة صلاح الدين الأيوبي على سؤال كهذا بخصوص القدس، قال القدس كل شيء.
- يعني أن هذه الحرب ستندلع ذات يوم لأجل القدس مرة أخرى وتتكرر الأحداث وتسفك الدماء وتترمل النساء ويحترق العالم.
- هذا أمر قابل للحدوث دائما.
- ماذا يحدث لو لم يكن في العالم أماكن مقدسة يا كامل؟
- الحروب تشتعل على الثروات والنساء أغلب الأحيان.
- وإذا لم يبق في العالم ثروات ولا نساء جميلات يا كامل؟
- كانت الحروب ستقوم للمتعة والتسلية واستعراض القوة وقتل الضعفاء بدون ذنب وبدون فهم لرغبات القاتل.
- إذن الإنسان متوحش دائما.
- ذرية قابيل لا يمكنها أن تترك العالم يعيش سلاما ومحبة كما أن الشيطان لن يسمح بذلك.
- وأين الله تعالى من كل هذا الشر؟!
- الله جل شأنه لا يتدخل في أحداث الرواية الكونية التي كتبها بعلم وحكمة وبصيرة ليدخل العباد في التجارب وينظر من ذا الذي ينجو من شر نفسه ورغباته وأطماعه وانحرافه.
- ألا يوجد أمل؟
- للأسف الشر الذي لا تصنعه ولا تشارك في انتاجه سيضربك في بيتك تماما كصاروخ توما هوك كروز يستهدف بيتا آمنا بنسائه وأطفاله بسبب خطأ في الإحداثيات.
- متى سيصبح هذا العالم جميلا؟
- عندما يحترق.
- لا تتشاءم يا كامل.
- لست متشائما لكن هذا العالم الدامي لن يكون جنة لأحد إلا للحظات خاطفة من عمر الزمن.
- دعنا نخطف لحظاتنا إذن.
- جميل هو البحر هذه الليلة، لا طائرات حربية ولا زوارق بحرية ولا قنابل كاشفة أتمنى أن يدوم ذلك للأبد.
- ليس هناك سوى مركب صغير لصياد فقير من عزبة البرج، يبدو أنه صنع شراعا مهترئا من قماش الدعاية لمجلس الشعب المصري، مسكين هذا الرجل لو خرجت الرياح سيتحطم.
- الرياح العاتية لا تمزق الشراع المليء بالثقوب صديقي الحبيب محفوظ.
- الشيب جعلك حكيماً يا كامل.
- ... انظر إلى الشرق ظهر النور الأبيض، هذا غبش الفجر، يولد النهار هناك قبل أن يتلألأ في الجهات الأخرى وشفق الصباح يشتعل ثم تندلع الشمس.
(طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة
يلا بنا نملا ونحلب لبن الجاموسة)
غنينا معا ومشينا على الشاطئ نركل نهايات الموجات بأقدامنا الحافية والشمس تتوهج بلطف والآلاف يندفعون إلى البحر، أوصلت صديقي لمسكنه رغم إلحاحي ليقبل أن يفطر معي، وعدت أترنح تحت أشعة الشمس الناعمة، رغم شروقها ما يزال زحام الليل قائما وممتدا، وتزداد أعداد المصطافين الريفيين الذين يهبطون من الأتوبيسات أفواجا لقضاء يوم واحد فقط في رأس البر، من أول ضوء للنهار لآخر ضوء.
مشيت لفندق السلام، جلست على طاولة في كافيه الحديقة أمام الفندق، وجاء مدون الطلبات، اخترت سندويتشات خبز فينو بالشاورما مع الطحينة، ستجبرني هذه الوجبة على البقاء متيقظا عدة ساعات، العازب كريشة في الريح، تقوده خطاياه ويتلاعب طيشه به.
أقضم وأتلذذ وأسرح وأذهب بعيدا وأعود، لمحت عيناي في لحظة انتقال خاطفة بين الوجوه، وجه فتاة فاتنة، ظننت أنها تيسير لشدة الشبه بينهما، كما تقول الأمثال فولة وانقسمت لنصفين، ويخلق الله من الشبه الواحد أربعين وجها.
كانت تطلق شعرها حرا، وترتدي تي شيرت أزرق ضيقا وبنطلونا أبيض، نظرت في عينيها وأطلت النظر، لم تخجلها نظرتي الوقحة الجريئة، كأنها رفضت الاستسلام وخفض بصرها، لم أنتبه لنفسي وأنا أعض على شفتي السفلى، وعندما عضت على شفتها هي الأخرى بشراسة، شعرت بألم في صدري، وضعت يدي وتحسست عضة عمرها عشرون عاما، أخرجت رزمة نقود كبيرة من جيبي، تعمدت أن أظهرها أمامها ببطء، ناديت النادل، أعطيته حسابه وبقشيش أفرحه شكرني عليه، طلبت فنجان بن مضبوط، وتحججت أنني من الممكن أن أغادر المكان في أي لحظة، قال بلطف المكان مكانك يا باشا.
رفعت عيني تجاهها وأنا أعيد النقود إلى جيبي، لاحظت وقوف رجل عجوز وراءها في الظل عند حافة الرصيف، تأملته باستغراب، سرت قشعريرة في بدني، كان يتكئ على عصا تبدو مصنوعة من ناب فيل، مطهمة بحلقات ذهبية، عيناه ماكرتان كثعلب، كأن فمه لا يحتوي إلا على أربعة أسنان، وفي أصبعه خاتم بفص أحمر، ابتسم لي فزاد خوفي أكثر، همست لنفسي هذا الرجل موجود في كل زمان ومكان!، لاحظت الفتاة أن عيني تجمدتا على شيء ما خلفها، استدارت بنصفها العلوي، نظرت حيث أنظر، بدا كأنها لم تر شيئا، جف حلقي، أدرت وجهي لمنضدتي ومددت يدي لأتناول زجاجة الماء، سبقتني يد رجل قصير، بشرته كالفحم، البياض في عينيه بدا لي كحلقتين للفناء، كأنه قام من الرمال، أفزعني مظهره المرعب، شرب زجاجة الماء المعدنية، وأشار لي بيده شاكرا ومضى، أزعجني أنه لم يستأذن، عدت بذاكرتي إلى كوخ تيسير وثقوب الباب وهروبي، نظرت تجاه العجوز مرة أخرى فلم أره، كان الرجل الأسود قد سار ناحيته ببطء وعزم، نظرت يمينا وشمالا، لا أثر للرجلين، أمسكت علبة سجائري، لاحظت أن زجاجة الماء كما هي مملوءة ومغلقة، أشعلت السيجارة، رفعت رأسي للسماء، بدت سحابة بيضاء تتفرق وتتشكل، لويت عنقي ونظرت ، بدت لي كأنها تشبه لفظ الجلالة، نظرت في وجه الفتاة الجميلة، أصبح وجهها شديد الاصفرار، أنفها كأنف خنزير، عيناها كعيني ذكر ماعز أسترالي، وبدا فمها كفم سمكة قرش، تبدل حالي وتعكرت، شعرت أنني أختنق لوجودي في هذا المكان، وقفت وأنا أنظر إليها نظرة زاهد، وقفت لأغادر ، نمت بداخلي رغبة غريبة للصلاة والبكاء، تجمهر الدمع في عيني، نظرت لابتسامة الفتاة التي بدت بشعة وقبيحة، انصرفت وأنا أحدث نفسي ، يا لها من أسنان تبدو كأسنان آكلي لحوم البشر.
أطفال لا ترى الملائكة
خطأ في الإحداثيات
الفصل الأخير
رواية أشرف الخضري
أفاتار للطباعة والنشر 2020