وصف الكتاب
", تكبر مريم وتكبر دائرة خوفها معها . الرحيل .. المسافة . هاجس يرعب مريم يوماً بعد يوم ، هاجسُ ممزوج بالقلق والرعب لم يعلن استسلامه يوماً ولا حتى فترت قوته . بل كان على العكس من ذلك ، ينمو ويزداد كنبتة العربيشة التي تظل تتسلق جدران سور البيت وتمتد حتى تغطي كل الجدران . فلا يظهر بعدها الجدار . كالجدار المغطى أصبحت مريم وكالعربيشة هو خوفها . ينمو ويمتد حتى أصبح يلفها ، ولكنه أسود بدل أن يكون ك العربيشة أخضر . مسافة طويلة قطعتها مريم وعربيشة خوفها تزداد وتنمو . عربشة خوفها المسافة البشعة التي قد تفصلها عن جدّها . خوفٌ من لحظة لا تجلب بعدها إلا كلّ الأسى لها . أتخاف مريم على جدها من الموت أم تخاف على نفسها ؟ ! أكثر من سؤال يلوح باستمرار أمامها : كيف ستحيا بدون جدّها ؟ ! كم ستعاني ؟ ! وهل سيكون لحياتها نفس الطعم بعد أن يرحل جدها ؟ أي طعم هذا ؟ أليست هي الخائفة المرعوبة ؛ مريم خائفة وقلقة لكن يبقى لوجود جدها في كونها الصغير طعم لا يضاهيه أي طعم ، طعم كحلاوة المربى والعسل ، فقلبها دائماً ما يقول : ", من عنده جدّ كجدّي ! ", . لا تحتاج مريم لكثير من الوقت حتى تجيب على تيار الأسئلة الذي يغزل بها . لا تشك مريم أن طعم حياتها بعد جدها سيكون كطعم الزيتون الأخضر مُراً . فمن أين ستأتي بالسكر بعد رحيل المربى والعسل ؟ ! أتخاف على جدها من الموت أم أنها تخاف على نفسها ؟ ! ! قلبٌ فارغٌ من الأكبر والأجمل كيف سيعرف أن الأكبر والأجمل أكبر وأجمل من جدها ؟ ! فالآن لن تعرف . مزاج شعورها غريبٌ جداً يصل إلى درجة الإنفصام . مخيف يكون برفقة جدها تلفحها نعمةٌ من إحساس غريب يشعرها أن هذه الساعات هي أجمل الأوقات على قلبها . لكن سرعان ما يتبخر شعورها بالسعادة ، ويحل مكانه ما هو عكسه تماماً . أعصار من القلق والحزن يضربها من كل مكان ويحوّلها حيرى وتائهة . فجدها لا محالة ميت ، وهي لا محالة خاسرة ! أتعيش مريم خارج الزمان ؟ فعلاً ، مريم تعيش خارج اللحظة ! أن تعيش خارج اللحظة يعني أن نُفسد بالقلق جمال اللحظة أو اللحظة كلّ ما نملك ", سكنها خوف الرحيل ، فباتت تلك الغريبة حتى نفسها .. أوليس أروع عبور لا يكون إلا بعد الرحيل ؟ ! لم تكن مريم لتعي أن مشاعرها تلك هي وليدة مسافة تبعدها عن الله .. وحين أزفت لحظة رحيل جدها إلى خالقه .. حين عودة نفسه المطمئنة إلى الله ، أصبحت مسافة بُعدها هي من الله أكبر وأكبر . وحتى عندما جاء جلال ليملأ فراغ قلبها .. ويحل محل جدها .. أنكرت عليه ذلك . نصحها بأن تكون على مسافة قريبة من كتاب الله ليهدأ قلبها وتطمئن نفسها .. فأنكرت عليه ذلك لأنها دائماً تقرأ في كتاب الله .. إلى أن أدركت وحين فكرت في قوة الأمل التي يتمتع بها هذا الرجل جلال ، وفي مصدرها .. أدركت أنما هو يستمد قوة أمله من كلمات النور وأن نظراته التي يرى بها الدنيا ليست نظرات عادية .. ومن ثم ليعبر صوت هذا الرجل الذي خبر الحياة وليستقر في قلب مريم . فقد كان جلال حريص جداً أن ينقذ مريم من يأسها ولم يكن ليتعب من أن يكرر لمريم أن بعد الألم لن يأتي إلا الشروق ، ولا شروق دون كلمات الله : ولتنفَذ كلمات جلال إلى قلبها .. وتفتح الكتاب .. وتغيب مع كلماته في عالم آخر .. تغيب وتغيب .. تقبله ثلاثاً وبين كل قبلة تلصقه بجبينها ، كما كان يفعل جدها .. وحالة تعتريها .. حالة سكينة واطمئنان بتلاشي المسافة بينها وبين الله .. إذ أدركت أنها لم تكن مؤمنة حقاً .. ولتعدو إلى قبر جدها ، وبركان من الحزن يتفجر داخلها .. ليخطّ قلم قلبها : ", .. جدي ... أتراني عبدْتك أم عبدت خوفي ؟ ! فما كنت الله أعبد ؟ اكتشفت سرك .. سرّ قلبك الساكن .. بالنور كان ممتلئاً .. نور كلماتك تلك .. كلمات النور .. جدي ... ليس مثلك رأيت القرآن .. رأيته أنت كتاب الأحياء .. في حين لم أره سوى كتاب الأموات ! الآن فقط يا جدي ، أرى ما رأته عيناك . كتاب الحيالة لقلبي .. وجدته .. ليملأ روحي .. علّني به أصحو من رقدتي .. ولعلّ اليرقة التائهة يا جدي من شرنقتها تعبر .. ومريم بعد تلك اللحظة لن تقرأ على قبره سورة ( يس ) .. ستستعيض اليوم بآية واحدة ، واحدة فقط : [ قل إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله ربّ عالمين ] .. له وحده يا جدّ .. فهو الأكبر والأجمل .. فلا كبير أكبر منه ولا جميل أجمل منه .. به تُجبَر القلوب المنكسرة حين يسكنها .. جدي الرحيل الذي خِفته .. ما أجمله حين يكون إليه ..