وصف الكتاب
",صراع التأويلات", عنوان يختصر محتوى هذا الكتاب، كما أهميته في المسار الفلسفي في الستينات من القرن العشرين. فمؤلفه بول ريكور كان يعلّم في تلك الفترة في السوربون وفي شيكاغو، ويلقي المحاضرات في العديد من الجامعات في العالم، وكان قد جاء أولاً من منهجية الفينومينولوجيا (الظاهراتية) التي كان قد تبناها مع الوجوديين الفرنسيين وعلى رأسهم جان بول سارتر. وهذه المنهجي تقوم على فكرة أساسية هي أن الذات الفاعلة شفافة، يستطيع الوعي أن يسبر غور معناها، وأن الحدس طريق آمن للمعرفة التي كان الكوجيتو الديكارتي قد رسمها منذ القرن السابع عشر. غير أن كل شيء تغير تماماً مع الستينات وبدأت المنهجيات الجديدة المنكرة لأي دور للكوجيتو وللذات تغزو كل الفضاء الثقافي الأوروبي، وكانت على رأسها البنيوية التي جاءت من ألسنية سوسور ثم من أنتروبولوجيا ليفي-ستروس، تؤكد على التنظيم وعلى النسق، وأن المهم هو تمازج العناصر حسب بعض مبادئ البنية، وبالتالي فإن الأهمية ليست للكلمة في حدّ ذاتها؛ ولكن للاختلافات والتعارضات التي تعيها مع الكلمات الأخرى. ليس للذات الفاعلة هنا دور تقوم به، والمهم ليس وجهة النظر التاريخية والتطور، ولكن المهم هو وجهة النظر الآنية، ووجهة نظر التعاصر Sychronic. التنظيم البنيوي في فترة معينة هو المهم، وهذا ليس للكوجيتو من مكان في داخله. من هنا فقد كان الصراع الأول الذي يخوضه المؤلف مع هذه البنيوية الطاغية، والتي ستُغْرِق كل الفضاء الفلسفي الفرنسي في تلك الفترة، وكان ريكور يدرك أنه بعد اليوم لا يستطيع أن يكتفي بالظاهراتية الموروثة من هوسرل؛ لأن الكوجيتو الذي تقوم عليه يستند إلى أوهام الوعي المباشر، فكان لا بد من تطعيم هوسرل بالتأويلية التي تقوم على وجود معنيين مختلفين في كل نص أو رموز ثقافية، المعنى الظاهر والمعنى الخفي، القصد الذهني، ولا بد من إرجاع الرمزية وأبعادها ومظاهرها من مثل نور وظلمة وقذارة ونجاسة وسقوط إلى عريها الأصلي، بنزع القناع الأسطوري عنها وكشف القوى التي تختبئ وراءها، غير أن هذا يفترض، من أجل فهمٍ أفضل لذواتنا، اتخاذ الطريق الطويل أي القبول بالمرور ضمن كل عالم الإشارات (السيميولوجيا) وعالم التحليل النفسي، والتوقف عند فرويد والاستماع له ومعاملته كفيلسوف مكتشف لهذا اللاوعي وللهو الذين يشكلان ضربة موجعة لوهم الذات ونرجسيتها في معرفة ذاتها، وهذا ما يقوم به بول ريكور في كتابه هذا، وذلك بأسلوب يجمع بين العمق والوضوح.
يعود اهتمامي بالفلسفة إلى نهاية دراستي الثانوية، ولقد واجه هذا الاهتمام مطلباً للدقة في المتصور وشجاعة عقلية أشعر أني أدين لها على الدوام. ولقد كان من عظيم سعادتي، بعد عدة سنوات، أن أدرس بمعية غابريل مارسيل على هامش السوربون: لقد تمثلت الدراسة، هذه المرة، في السبر الحر للأسئلة المحرجة، والتي تقف عند حدود التفكير والحياة المقترحة عليّ. وكان هنا لقائي الشخصي الثاني في مملكة الأفكار. ولقد تدربت في السنة نفسها على الأعمال التي نشرها هوسرل، والذي يعدّ المؤسس لتيار الظاهراتية، كما اطلعت على همه في الوصف السليم والدقيق للظواهر المادية.
ويشكل هذا التأثير جزءاً من أعماق اعتقادي الدائم. ويمكن أن يضاف إلى هذا، في الوقت الذي كنت فيه سجيناً في ألمانيا بوصفي أسير حرب، تأثير كارل جاسبيرس الذي نجد توجهه الفلسفي مستودعاً في عمله الكبير المعنون ",فلسفة",. ولقد وجدت نفسي هكذا، مع خروج الحرب العالمية الثانية، معداً من أجل أداء مهنة وعمل شخصي، وذلك تحت توجيه ثلاثة أوصياءهم: غابريل مارسيل، وكارل جاسبيرس، وهوسرل.