وصف الكتاب
خلال الألفيات الأولى من تاريخ البشرية فوق سطح الأرض، طفق الإنسان يركز علاقته بالطبيعة وبالغيب وبالمجتمع، متكلاً في ذلك على حس قادره إلى أن يصبح كائناً تاريخياً، له تاريخه الذي يعيه بنفسه ويدوّنه، غير أن ما ظل ينقص الإنسان إنما كان الإستجابة إلى دعوة سقراط؛ ",اعرف نفسك", ونزعم أن ما يميز الألفية الثانية إنما كان إكتشاف الإنسان لنفسه، كإستجابة متأخرة للدعوة السقراطية، بيد أنه لم يكتشف نفسه كلها معاً، ولا كان للإكتشاف الوقع نفسه في كل مكان، ولا الحجم نفسه، كان الإكتشاف تدريجياً...
وعلى هذا بدأ الإنسان بإكتشاف نفسه خلال الألفية الثانية أو قبلها بقليل، من دون أن يؤمثل ذاته، ومن دون أن يعزو كل ما يصيبه إلى قوى الغيب... فأين قيض للإنسان أن يحقق ذلك الإكتشاف ويعبر عنه؟ هل في أي مكان آخر غير ما أبدعه من فكر وفن وفلسفة وأدب وعمران وموسيقى وإنجازات علمية؟...
إنه، بإختصار ما يمكن تسميته بــ",تراث الإنسان", أي الإنتاج الذهني الذي حققه أفراد متميزون في أزمان وحقب متميزة أو غير متميزة، وكان من شأنه أن يدحض نظرية لامارك الشهيرة حول أن لا شيء يخلق ولا شيء يموت، أجل مادياً، لم يزد شيء إلى الكون وإلى التاريخ، الحجم هو نفسه والكم كذلك، ولكن تأكيد هذا لا يأخذ في إعتباره تلك الألوف وعشرات الألوف من الأشعار والأفكار والفلسفات واللوحات والأبنية والمنحوتات والقطع الموسيقية والمسرحية والسينمائية، التي كانت ما أضافه الإنسان إلى تاريخه البيولوجي فغيّر به ذلك التاريخ، وأحياناً – بل غالباً – تغييراً جذرياً.
فهل هناك ما هو أروع من عبارة ",تراث إنساني", إذ ليس هناك ما هو أفصح منها، يشكل قاسماً مشتركاً بين أشعار المتنبي ومسرحيات شكسبير وأفكار ديكارت وهيغل وماركس، وأفلام إيزنشتاين وشابلن وغريغيث وفيلليني، بين لوحات رافائيل وفان غوغ، وألحان باخ وفيفالدي وفاغنر وماهلر وعمران لوكور بوزييه وستاف وروايات توماس مان ونجيب محفوظ وماركيز وبروست... وليس بعد.
إلا أن ما يهم هنا هو ذلك الإرتباط بين ما أبدعته البشرية، خلال الألفية الثانية، وبين تكوينها لتاريخها الذهني – تاريخها الحقيقي والأكثر جمالاً – فهي ألفية الإنسان... الألفية التي ربما تحت تأثير الحضارة العربية، وربما تحت تأثير إنبعاث الإغريق فجأة في عصور الظلمات الأوروبية، شهدت الإنسان نسيج برومثيوس حاملاً النار لا يريد لجذوتها أن تنطفئ؛ فالحال أنه مع ولادة تلك الألفية، ومع إضاءة الحضارة العربية لأول حيز جغرافي غير منغلق على حدود قومية أو عنصرية في تاريخ البشرية، آن لتاريخ الإبداع الإنساني أن يتجاوز الحدود والقوميات...
هذا وإن أعظم إنتاجات هذه الألفية كانت ولا تزال أعمالاً تنتقل من المبدع الفرد وهو يجعل على كتفه تاريخ الحضارات والعصور والأمكنة مجتمعة إلى البشرية، ككل، فالكوميديا الإلهية ليست إيطالية لاتينية فقط، وحين يؤرخ الفردوسي لملوك فارس فهو يؤرخ البشرية، وكليات ",ابن رشد لم تكن ملكاً للعرب وحدهم، وشكسبير وفان غوغ وفيسكونتي وغيرهم عبّروا حين عبّروا عن أنفسهم ومجتمعاتهم عن الإنسانية جمعاء وانصبّ نتاجهم في مسار الإنسانية جمعاء.
وهذا ما يحاول الباحث في مؤلفه هذا رسمه وليرسم من خلاله بكلمات بسيطة ونصوص مختصرة وصور معبرة، تاريخاً ما للعقل والثقافة البشريين، كما تجليّاً خلال ألف عام، وسيكون للقارئ في هذا مزيج من الأفكار والفنون والثقافات، ومزيج من الأمم والأفراد، ولا يعني هذا أن المؤلف سيأخذ القارئ عبر رحلة تخصصية أكاديمية، مورداً تحليلات مسهبة مملة أو مدرسية... لكنه سيحاول وقدر الإمكان تناول أعمال خالدة وأساسية، شكلت معلماً ومدماكاً هاماً في تاريخ البشرية على جميع الأصعدة الفكرية السياسية والفلسفية والأدبية كما وعلى صعيد الفنون بما في ذلك الفنون المسرحية والسينمائية والرسم والنحت وفي إطار نظرة تحاول أن تكون جديدة؛ تعطي المكان الأول لتمجيد الدور الذي لعبه الفرد في حضارة المجموع، لا يهم إنتماء الفرد أو جنسيته غريباً كان أم أعجمي... أفريقي أم أوروبي... أم أميركي أو آسيوي إنما المهم النموذج بحدّ ذاته... فليس هناك حدود بين شكسبير ونجيب محفوظ وباخ وماهلر وأولى الروايات اليابانية وآخر الأشعار الأفريقية، بالنسبة للغاية أن كل ذلك إنما يمثل تاريخ البشرية... يتم إيراده ضمن نماذج تجعل الأمر يبدو وكلعبة كلمات متقاطعة، يعيد القارئ تركيبها.
وتجدر الإشارة إلى أن المؤلف عمد إلى تنسيق هذه المقالات التي كان قد كتبها في جريدة الحياة بشكل يومي على مدى أكثر من اثنتي عشر عاماً، ضمن موضوعات فجاءت على الشكل التالي: ألف عام من الفكر السياسي، ألف عام من الموسيقى، تاريخ السينما في 100 فيلم، ألف عام من الأوبرا، ألف عام من الفن التشكيلي.