وصف الكتاب
ما من كائن فى هذه الحياة إلا يشجيه اللحن الجميل وتطربه الموسيقى العذبة، ولكل إنسان لحنه، وموسيقاه، التى تمس من نفسه موضعاً حساساً، فلا يكاد يسمعها حتى يطير ذهنه إلى موضع معين من أيامه الخوالى، ويبصر على ضوئها صورة من صور الماضى التى طواها الزمن، وقد تصيبه من ذكراها فرحة أو لوعة، وقد تشجيه وقد تبكيه، حسب ذلك الجو الذى سمعها فيه أول مرة، لاشك فيه أنه مهما كان لتلك الألحان من وقع حزين أو بهيج، ومهما كان من مرارتها أو حلاوتها فإن لها فى النفس لذة عجيبة ونشوة ممتعة.
ولست أجد كالألحان والأغانى لغة تتفاهم بها القلوب الولهى والنفوس الصبة الذائبة، فربّ قلبين فرق بينهما البعد وأحرقهما طول الهجر والحرمان، طاف بهما فى وحدتيهما لحن باك أو صوت شاد، فأطفأ منهما حرقة، وضمد جرحا وشفى قرحا، وقرب بينهما حتى لكأنهما التقيا على بعد الشقة ونأى المزار.
ألم يجلس أحد كم ذات ليلة وقد طبقت على نفسه أثقال من الحزن وحطت على قلبه أكوام من الأسى، وجمدت الدموع فى مقلتيه فأمسى وكأنه جلمود شقاء، أو يأس؟
ألم يسر إليه لحن أو طافت به أغنية صهرت دمعه وأذابت حزنه، وبددت جاثم يأسه، وذرت داكن شقائه؟
أليست الأغانى أصواتا تصدر من الحناجر وتنبس بها الشفاه، ولا رنينا ينبعث من الأوتار والمزامير والدفوف، ولكنها نشوات القلوب واهتزازات الأرواح، هى ذوب المشاعر المرهفة والأحاسيس الحارة المتدفقة.
إنى لأذكر نفسى بعد وفاة والدى وأنا صبى فى الرابعة عشرة وقد خيم على البيت الحزن وجثم علينا السكون المطبق الرهيب، أذكر نفسى فى أساى وشرودى وقد اخذت أغنى بصوت خافت - بلا وعى ولا إرادة - اغنية كنت لا أفتأ أرددها فى ذلك الحين، ودهش من حولى، وأمرونى بالكف عن الغناء، لأن مقام الحزن لا يلائمه الغناء.
ومع ذلك لم أكف عن الغناء، فقد كنت لا أرى هناك تناقضا بين حزنى وغنائى، بل كنت أشعر أن غنائى قطعة من حزنى، وأن بينهما توافقا كاملا وانسجاما تاما.
واليوم، عندما أجلس لأكتب، والقلب فى ركود، والذهن قد استنفد ما به من ذكريات حب قديم، وخلا من آثار حب جديد، أجد من العسير علىّ أن أكتب عن العشاق وأقص أحاديث الحب، حتى يثير مشاعرى سماع لحن جميل أو ترديد شعر رقيق، فإذا القلب يترنح طربا، والذهن ينفض عنه غبار الكسل، وإذا القلم يجرى على الورق ليسطر ",اغنيات",.