وصف الكتاب
ظهرت في مدن الجزائر الكبرى، العاصمة وقسنطينة ووهران، إبّان الاحتلال مجلّات فرنسيّة عديدة، تنوّعت مواضيعها؛ فكان منها الأدبيّة والعلميّة، ومنها المصوّرة والفنيّة، كما تباينت الجهات المسؤولة عنها، فمنها الصّادر عن هيئات رسميّة كجامعة الجزائر، ومنها ما تنشره جمعيّات، على غِرار الجمعيّة الأثريّة بقسنطينة، والجمعيّة الجغرافيّة في وهران. وتُعدّ (المجلّة الأفريقيّة/Revue africaine) اللّسان النّاطق للجمعيّة التّاريخيّة الجزائريّة بالعاصمة من أبرز تلك المجلّات، وأوسعها انتشارا وشهرة؛ أخرجت إلى النّور، على امتداد أزيد من قرن من الزّمان، قريبًا من الألفَين وخمسمائة مقالة في أكثر من مائة (100) مجلّد، مستقطبة زُهاء أربعمائة (400) مؤلّف ومراسل، ما بين مُكثر في الكتابة ومُتوسّط ومُقلّ، على اختلاف مشاربهم وتخصّصاتهم ووظائفهم، ودوافعهم للكتابة في هذه المجلّة، وفيهم الكثير من القامات العلميّة المشهود لها برسوخ القدم في مجال تخصّصها.
صدر العدد الأوّل من (المجلّة الأفريقيّة) في أكتوبر 1856، ثم توقّفت في 1914 بسبب الحرب العالميّة الأولى، لتعود إلى الظّهور في جانفي 1918، واستمرّت حتى مارس 1962، حيث توقّفت نهائيّا عن الصّدور، لأنها فقدت سبب وجودها مع نيل الجزائر استقلالها. وبغضّ النّظر عن الغرض الذي من أجله أسّست هذه المجلّة، والزّيف والباطل الذي نراه في جنبات عددٍ من مقالاتها، إلا أنّها مع أباطيلها تبقى مفيدة من النّاحية التّاريخيّة، فكما أنّ الحقائق يؤرّخ لها وتُوثّق، فكذلك هي الأباطيل.
ومن باب الإنصاف، فإنّه لا يمكن للعين الموضوعيّة أن تخطئ الكمّ الكبير من المعلومات القيّمة التي قدّمتها المقالات المتنوعّة المواضيع، وقد كانت مصدرا مهمّا، اعتمده الدّارسون والمؤرّخون، ومن يقرأ كتابات مؤرّخ الجزائر الكبير أبي القاسم سعد الله -رحمه الله- يمكنه أن يقف على ذلك بوضوح، إضافة إلى ألوف الدّراسات المنشورة في الجزائر وخارجها التي ما فتئت تمتح منها. ولا غرو في ذلك؛ فالمتأمّل في (المجلّة الأفريقيّة)، يجد نفسه أمام دائرة معارف متكاملة؛ فهي قد وسّعت الرّقعة الجغرافيّة التي تدرسها، فلم تعد مقصورة على شمال أفريقيا -وإن كان هذاالحيّز الجغرافي، والجزائر على وجه الخصوص قد حازت نصيب الأسد من مقالاتها-، بل تجاوزتها إلى بقيّة القارّات. كذلك، لم تقتصر على مجال اختصاص المؤسّسة الرّاعية لها، وهو التّاريخ الذي استحوذ على قريب من ثلث عدد مقالاتها، بل تجاوزته إلى دراسة الآثار والعمران، والأدب واللّسان، والإثنوغرافيا والجغرافيا، وغيرها من المجالات التي يطول المقام بذكرها.
وما يجده قارئ هذا الكشّاف من تنّوع في عناوين المقالات، مردّه إلى سياسة (المجلّة الأفريقيّة)، واتّساع مفهوم كلمة ",التاريخ", لدى المؤسّسة القائمة عليها، فهو عندهم يتجاوز سرد الأحداث وقراءتها وتحليلها إلى دراسة المكوّن البشري والتّنقيب عن الآثار، ومساءلة الجغرافيا واللّغات والفنون والعلوم، وكلّ ما يمكنه أن يقدّم إجابات شافية عن خفايا الظّاهرة التّاريخيّة. كما أن تنوّع رؤساء هذه المجلّة من عسكرييّن وموظّفي الخدمة المدنيّة والقضاة والأساتذة والأطبّاء الذين تناوبوا على تسييرها، والأحداث التّاريخيّة التي شهدتها الجزائر وفرنسا والعالم بشكل عامّ، إضافة إلى التّنوّع الإقليمي والبشري لأرض الجزائر التي كانت محور جُلّ الدّراسات، كلّ ذلك قد ألقى بظلاله على مسار هذه المجلّة ومحتواها، فأثرى مقالاتها، ووفّر لكتّابها الموضوعات المحفّزة والمثيرة للفضول.