وصف الكتاب
في الكتاب نقرأ تحولات الواقع العربي في تحولات وعي مثقف عربي، حلم يوماً بواقع مختلف، تقف فيه الحقيقة كريمة، ويقف فوقه البشر بكرامة غير منقوصة. وعندما جاء التحول المنتظر لم يسلك السبيل المنشود الذي رغب فيه المثقف، إنما تحقق في اتجاه مختلف، يختلس من المثقف المسؤول رغبته، ويتركه وحيداً موزعاً بين المرارة والقلق. ولعل هذه المفارقة بين التحول المنتظر والتحول الذي جاء، تعطي كتاب سعد الله ونوس قيمته، وتبدو نشرة، وتجعل منه شهادة حيّة ومزدوجة: شهادة على مصير اختيار ثقافي-سياسي، كان سعد الله فيه علاقة بين علاقات أخرى، وشهادة على فترة محددة من تاريخ المجتمع العربي. الذي بدا في فترة انقضت، مليئاً بالوعود، قبل أن يفرق في مسلسل متعاقب من ",الفورات", السوداء.
في كتابه هذا يلقي سعد الله ونوس الضوء على منظور ثقافي، في زمن مضى، بقدر ما يلقي الضوء على وعي سياسي حكم ذلك المنظور، في زمن مضى. وكان ذلك المنظور، كما ذلك الوعي، لا يميز بين الحقيقي والصحيح، إن لم يعتقد أن الحقيقة منتصرة بذاتها ولذاتها، لأنها حقيقة، بدون أن يدرك أن تحول الحقيقي إلى صحيح يحتاج إلى ممارسة سياسة تعرف الواقع، والبشر الذين يعيشون فيه، قبل أن تعرف الأفكار وشعارات الحقيقة. إن نقد سعد الله ونوس لبعض وجوه منظوره الثقافي في السبعينات يهدف إلى تصحيح المنظور وتخليصه من الأوهام وجعله أكثر وضوحاً وحدّة. يسائل هذا الكتاب هزيمة المثقف في هزيمة مجتمعه. وقد يكون لكلمة الهزيمة حزنها، لكنه حزن لا يلبث أن يدور حول نفسه ويرحل، لأن الكتاب المسؤول يتابع عملاً يتجاوز أحزان الذات الكاتبة، أي يتابع ذلك التورط القديم الذي قبل به عندما رأى حياة الكلمة في حياة العقول القارئة.
واستمرار هذه الرسالة، وهي رسالة قديمة ومتجددة، هو الذي يبرر الاحتفال باسماء: كانت ياسين، بيتر فايس، بريشت، جان جنيه، ومفكري عصر النهضة من المثقفين العرب. فلا شيء جديد إلا تلك الدعوة إلى مراجعة نقدية فرضها مسلسل الهزائم، وبدونها لا يستطيع ونوس الاندراج في النسق الثقافي. الوطني الذي بدأ منه ولا يزال يتطلع إليه، والذي انتسب إليه، في زمن غير هذا عبد الله النديم وطه حسين ورئيف خوري. بعبارات أخرى الكتاب لا ينتمي إلى فضيلة الفكر المنتصر الآن في الواقع العربي، وهذا ما يجعله كتاباً يرفض الهزيمة، ويبتعد عن الأفكار ليقرأ الواقع في عريه الحزين، ويفتش عن تاريخ هذا الواقع والعناصر التي هزته. ولأنه كتاب يبحث عن أفق، فإن سطوره الأولى ترجع إلى عصر النهضة، حيث كان المثقف العربي يعيش اتساق الفكر والممارسة، ويوحد بين النظر والعمل بلا انفصام.