وصف الكتاب
إن معظم الدراسات الخلدونية قليلاً ما تنظر إلى الفكر الخلدوني ككل، بل إن كثيراً ما تنظر إلى آرائه في هذا الميدان، في استقلال وانفصال عن آرائه في ميادين أخرى. وأخطر من ذلك ما يفعله بعض الكتاب حيث يعمدون إلى عبارة من عبارات فصول المقدمة، ينتزعونها انتزاعاً، ويتخذون منها أساساً لتأويلات وشروح تبتعد بالفكر الخلدوني عن روح عصره، وإطاره الخاص. إن تجزئة الفكر الخلدوني على هذا الشكل، والاستناد في استنتاجات بعيدة، مفرطة أحياناً، على مجرد وعبارة أو فقرة وردت في المقدمة، أسلوب في البحث لا يساعد البتة على فهم آراء ابن خلدون على حقيقتها، وفي وحدتها الكلية وتناسقها الجدلي.
من هنا انطلق فكرة الباحث في دراسته هذه حول معالم نظرية ابن خلدون في العصبية والدولة من منظور إسلامي، متوخياً أولاً وقبل كل شيء إلى تقديم آراء ابن خلدون كما هي، وكما فكر فيها هو، انطلاقاً من نظرة شمولية، ترص على أن تجد للأجزاء مكانها في الكل، حرصها على النظر إليها على ضوء مشاغله الشخصية وتجربته الاجتماعية، وعلى اعتبار أنها امتداد وتطور لمنازع الفكر العربي السياسي والاجتماعي من خاصة.
وقد كان حرص الباحث شديداً على دراسة الفكر الخلدوني في إطاره الأصلي: إطار تجربته وظروف عصره، وعلى ضوء الثقافة التي غرف منها على اعتبار الفكر الخلدوني فكر فلسفي يتجاوز صره وبمقدار ما هو تاج هذا العصر نفسه، لأن مقدمة ابن خلدون هي، بإجماع الباحثين، تراث إنساني قيم يعكس بقوة وعمق خبايا وتفاصيل أهم وأخطر حقبة من التاريخ العربي الإسلامي وليس هذا وحسب، بل هو يعكس أيضاً، ولربما بنفس الدرجة من القوة والعمق، جانباً مهماً من جوانب واقعنا العربي الراهن، هذا الواقع نتواجد فيه جنباً إلى جنب بنيات القرون الوسطى، والبنيات الجديدة التي خلقها عالم اليوم.
لقد حاول ابن خلدون أن يفلسف التاريخ الإسلامي إلى عهده، وهي محاولة فريدة حقاً. لقد كون ابن خلدون لنفسه تصوراً خاصاً به للتاريخ الإسلامي ومسيرته، وهو تصور مستمد من ظروف تجربته، ووقائع عصره والمعطيات الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات التي عاش فيها ودرس أحوالها، ولذلك بات من الضروري على الباحث لفهم النظريات الخلدونية على حقيقتها، استجلاء الظاهرة الخلدونية بكامل أبعادها. إن تجربة ابن خلدون السياسية والاجتماعية والعلمية، ونظرياته في هذه الميادين نفسها، جانبان متكاملان يشرح أحدهما الآخر ويتممه: الظاهرة الخلدونية ممارسة اجتماعية ومعاناة نفسية، والنظريات الخلدونية تعبير عن تلك الممارسة وتفجير للطاقات التي جندتها هذه المعاناة.
ويقول الباحث بأنه إذا كانت قيمة الظاهرة الخلدونية بالنسبة للبحث، ليست في استعراض وقائعها الخارجية، بل في محاولة فك رموزها، وجلاء غوامضها، فإن قيمة النظرية الخلدونية بالنسبة للمشاغل والاهتمامات الفكرية الراهنة، ليست هي الأخرى فيما يقرره من نتائج أو يصدره من أحكام، بل انها كامنة في حل الإشكالات العديدة التي تطرحها، والقضايا الشائكة التي تثيرها. لقد اتخذ ابن خلدون، كما هو معروف، من ",العصبية", وهي محور البحث في هذه الدراسة، المفتاح الوحيد الذي حلّ به جميع المشاكل التي يطرحها سير أحداث التاريخ الإسلامي إلى عهده، وإذا كان المفتاح الذي يفتح جميع الأبواب مفتاحاً مزيفاً، كما يقال، فإن قيمة آراء ابن خلدون ليست في الدور، أو الأدوار، الذي يعزوه للعصبية وفاعليتها، بل انها تكمن في الإشكالات العديدة التي تطرحها نظريته في العصبية والدولة والعلاقة القائمة بينهما، هذه العلاقة التي تحدو، في نظره، شكل العمران وتجسم حركة التاريخ. لماذا تتحول العصبية في لحظة من اللحظات من مجرد رابطة سيكولوجية اجتماعية إلى قوة ",للمواجهة والمطالبة", ومن ثمة تأسيس الملك والدولة؟ لماذا تضعف العصبية و",تنكسر سورتها",، بمجرد بلوغها غايتها من الملك والشروع في جني ثمراته؟ لماذا تفسد العصبية بالترف والنعيم وهي القائمة أصلاً على النسب أو ما في معناه؟ لماذا تسقط الدولة بفساد عصبيتها لتقوم عصبية جديدة بتأسيس دولة جديدة؟ ثم لماذا كانت الحضارة، كما يقول ابن خلدون، ",غاية للعمران ونهاية لعمره، ومؤذنة بفساده",؟ وأخيراً لماذا كانت حركة التاريخ الإسلامي كما يصورها ابن خلدون، حركة انتقال من البداوة إلى الحضارة، حركة تسير لا على خط مستقيم، بل على شكل دورة؟ تلك هي الإشكالات الرئيسية التي تطرحها فلسفة ابن خلدون التاريخية والتي حاول الباحث إلقاء الضوء عليها وتحليلها واستجلاء أبعادها في هذه الدراسة.