وصف الكتاب
يتوق الباحث من خلال دراسته هذه إلى تقديم آراء ابن خلدون كما هي، وكما فيها هو، انطلاقاً في نظرة شمولية، تحرص على أن تجد للأجزاء مكانها في الكل، حرصها على النظر إليها على ضوء مشاغله الشخصية وتجربته الاجتماعية، وعلى اعتبار أنها امتداد وتطور لمنازع الفكر العربي السياسي الاجتماعي منه خاصة على أنه إذا كان حرص الباحث على دراسة الفكر الخلدوني في إطاره الأصلي: إطار تجربته وظروف عصره، وعلى ضوء الثقافة التي غرف منها، فإن هذا لا يعني اعتباره فكراً ميتاً مقطوع الصلة باهتماماتنا ومشاغلنا الراهنة.
إن الفكر الخلدوني فكر فلسفي، والفكر الفلسفي الأصيل يتجاوز عصره بمقدار ما هو نتاج هذا العصر نفسه. لذا كانت مقدمة ابن خلدون-وبإجماع الباحثين-تراث إنساني قيّم، ما زال رغم كل ما كتب عنه في مزيد الحاجة إلى الدراسة والتحليل، ليس لأن هذا التراث الثمين يعكس بقوة وعمق خبايا وتفاصيل أهم وأخطر حقبة من التاريخ العربي الإسلامي وحسب، بل لأنه يعكس أيضاً، ولربما بنفس الدرجة من القوة والعمق، جانباً مهماً من جوانب واقعنا العربي الراهن، هذا الواقع الذي تتواجد فيه جنباً إلى جنب بنيات القرون الوسطى، والبنيات الجديدة التي خلقها عالم اليوم.
لقد اتخذ ابن خلدون-وكما هو معروف-من ",العصبية", المفتاح الوحيد الذي حل به جميع المشاكل التي يطرحها سير أحداث التاريخ الإسلامي إلى عهده. إن قيمة آراء ابن خلدون-ليست في الدور، (أو الأدوار) الذي يعزوه للعصبية وفاعليتها، بل أنها تكمن في الإشكالات العديدة التي تطرحها نظريته في العصبية والدلالة والعلاقة القائمة بينهما، هذه العلاقة التي تحدد، في نظره، شكل العمران وتجسم حركة التاريخ. لماذا تتحول العصبية في لحظة من اللحظات من مجرد رابطة سيكولوجية اجتماعية إلى قوة ",للمواجهة والمطالبية", ومن ثم تأسيس الملك والدولة؟ لماذا تضعف العصبية و ",تنكس سورتها", بمجرد بلوغها غايتها من الملك والشروع في جني ثمراته؟ لماذا تفسر العصبية بالترف والنعيم وهي القائمة أصلاً على النسب أو ما في معناه؟ لماذا تسقط الدولة بفساد عصبيتها لتقدم عصبية جديدة بتأسيس دولة جديدة؟ ثم لماذا كانت الحضارة-كما يقول ابن خلدون-غاية العمران ونهاية لعمره، ومؤذنة بفساده",؟ وأخيراً لماذا كانت حركة التاريخ الإسلامي كما يصورها ابن خلدون، حركة انتقالي من البداوة إلى الحضارة، حركة تسير لا على خط مستقيم، بل على شكل دورة؟ تلك هي الإشكالات الرئيسية التي تطرحها فلسفة ابن خلدون التاريخية، وهي الفلسفة التي وجد لها الباحث في الظاهرة الخلدونية ما يبررها، كما وجد لها من أحداث ماضينا وبعض وقائع حاضرنا ما يساعده على تجلية غوامضها وبيان عمق أبعادها، فتزود من خلالها بجملة من العناصر المهمة التي مكنته من رسم المعالم الأساسية لنظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، نظرية تنطلق من اهتمامات راهنة، ولكنها تعتمد، أولاً وأخيراً، على شهادة ابن خلدون نفسه ويقول الباحث بأنه وإن كان متأكداً من أن هذه الشهادة وحدها لا تكفي، فهو مع ذلك مقتنع بأنها شهادة ضرورية جداً، وأن استنطاقها على الوجه الصحيح، هو بداية الطريق الصحيح.
تلك على العموم، الخطوات الأساسية التي سار عليها الباحث في هذه الدراسة، وهدفه تقديم فكر ابن خلدون في وحدته وتناسقه وتكامل حلقاته، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من نتائج قد تساهم، على نحو ما، في إلغاء بعض الأضواء على المشاكل التي يعالجها الفكر الاجتماعي والتاريخي المعاصر، بخصوص تاريخ الإسلام وحضارته.