وصف الكتاب
لقد نشأت السوسيولوجيا كعلم مستقل بأوروبا في القرن التاسع عشر، ولكن هذا العلم سيشهد نشأة جديدة في الولايات المتحدة الأميركية، ذلك أن النهضة الشاملة التي عرفتها هذه الولايات ستقوم في الأول على ما راكمته أوروبا من اكتشافات وإنجازات فكرية وعلمية، ولكنها ستنطلق من كل ذلك الإرث الأوروبي لتطوره وتخلق له المختبرات والمعاهد والجامعات لينمو ويزدهر بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني. وهذا الأمر لا يصدق فقط بالنسبة للعلوم الطبيعية، بل ينسحب على العلوم الإنسانية كذلك، ومنها علم الاجتماع ومختلف فروعه ونظرياته، وعلم الاجتماع الحضري مثال ساطع على ذلك، فمختلف مؤرخي السوسيولوجيا يجمعون على أن الفضل في نشأته يعود إلى مدرسة أميركية اشتهرت ولا تزال باسم مدرسة ",شيكاغو",. وبالرغم من أصالة هذه ",المدرسة", وانبثاقها في أحضان المؤسسة الجامعية الاميركية الفتية فإنها مع ذلك لم تنشأ من فراغ؛ لأن أعمال روادها تحيل على الفكر السوسيولوجي الحضري الأوروبي، وتعتبر امتداداً وتجديداً له في نفس الوقت. إن كل رائد من الرواد الأوائل لعلم الاجتماع (دوركهايم، فيبر، سيمل) اهتم بظاهرة المدينة وحاول تناولها انطلاقاً من زاوية النظر الخاصة به، ومن هذا التراث الفكري ستكون انطلاقة رواد مدرسة شيكاغو الذين استفادوا بالإضافة إلى ذلك من ظروف فكرية واجتماعية خاصة جدا تمثلت بالأساس في كون مدينة شيكاغو ستعرف في نهاية القرن التاسع عشر ميلاد جامعة رائدة واستيعاب المهاجرين الوافدين على المجتمع الأمريكي. هذا ويعتبر البحث الذي أنجزه وليام اسحاق طوماس الفلاح ",البولوني", (مونوغرافيا جماعة مهاجرة إلى أمريكا)، حسب ج. م. برطلوت (J. M. Berthelot). بمثابة شهادة ميلاد السوسيولوجيا الأمريكية الحديثة",. إن إرث مدرسة شيكاغو سيظلّ حاضراً في السوسيولوجيا عامة، وفي سوسيولوجيا التحضر والهجرة خاصة، وذلك سواء على مستوى منهجية البحث، أو المفاهيم المستعملة أو النظريات المستلهمة. ولكن هذه السوسيولوجيا ستتجه شيئاً فشيئاً لتجعل من ظاهرة ",التحضر", موضوعها المفضل، ذلك أن هذه الظاهرة في بعديها المجالي والثقافي تتجه تاريخياً لتصبح ظاهرة ",كونية",، فكل المجتمعات الإنسانية سواء منها المتقدمة أو تلك ",السائرة في طريق النمو", تعرف نمواً حضرياً مضطراً مضطرداً؛ بل إن الظاهرة القروية قد اندثرت في العديد من الدول، وهذا ما دعا ويدعو بعض علماء الجتماع إلى التساؤل عن موضوع السوسيولوجيا الحضرية في خضم الإدماج المجالي الهائل والمستمر الذي تعرفه مختلف بقاع العالم، لدرجة أصبح فيها ",الموضوع الحضري", يتماهى مع ", الموضوع الاجتماعي",.
ولهذا يرى بعض علماء الاجتماع أن التسمية الأنسب لهذا التخصص هي ",سوسيولوجيا التحضر",؛ على اعتبار أن موضوعها هو عملية الاندماج الاجتماعي في المجتمع الكلي الذي يتجه ليصبح حضرياً بالكامل. ضمن هذه المناخات يأتي هذا الكتاب الذي الغاية منه تعريف القارئ العربي بهذه المدرسة السوسيولوجية التي تعتبر من أهم المدارس التي عرفها علم الاجتماع الحديث. وذلك من خلال دراسة تتبع نشأة وتطور هذه المدرسة وأهم المقاربات والنظريات التي انبثقت عنها، والتعريف بأهم روادها وذلك عبر تسليط الضوء على بعض النصوص المترجمة لكل من ",وليام طوماس", وروبرت بارك", و ",لويس وورث",. في كل مجالات العلم والمعرفة، وسيظهر في رحابها أول قسم لعلم الاجتماع والانتربلوجيا في العالم، وسيدعو ",ألبيون سمول", أول رئيس لهذا القسم، الأساتذة والطلبة للقيام بأبحاث ميدانية كرصد ودراسة مختلف التحولات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي تعرفها مدينة استطاعت في ظرف خمسين سنة استقطاب أكثر من ثلاثة ملايين من المهاجرين القادمين مختلف مناطق أمريكا ومن الخارج على وجه الخصوص. إن الخطوة الكبرى التي تمتقت بها هذه المدرسة، وما تزال، تعود بالأساس لروادها الأوائل الذين كان لهم شرف الانتقال بعلم الاجتماع من الهواية إلى الاحتراف، ومن حالة النظر الانطباعي التأملي للظواهر والوقائع الاجتامعية؛ إلى حالة النظر العلمي الاستكشافي، وذلك ما يتجلى في تأسيسهم لتقليد ",البحث الميداني", في هذا العلم، وتمكنهم من ابتكار وتطبيق أهم التقنيات المنهجية التي لا زال العالم يستعملها إلى اليوم، وبالخصوص تلك التي تُنعت بالكيفية (دراسة الحالة، الملاحظة بالمشاركة وتحليل مضمون الوثائق الشخصية، وحكايا الحياة).
وبالإضافة إلى تأسيسها ",للمنهجية الإمبريقية", في علم الاجتماع ستشتهر في شيكاغو، كذلك بتدشينه للبحث النظري والميداني في مجالي التحضير والهجرة. ذلك أن رواد هذه المدرسة قد أنجزوا ",سلسلة مدهشة من الدراسات حول المشاكل التي كانت تعاني منها مدينة شيكاغو",، كما كرسوا بالأساس جزءاً من أعمالهم لمشكلة سياسية واجتماعية هامة كانت كل المدن الأمريكية الكبرى معينة بها وتتجاوز إطار سوسيولوجيا المدينة وحدها: ألا وهي مشكلة الهجرة والوافدة، ومسألة أنصهارهم.