وصف الكتاب
الخطاب الفضائي
في
",لحظة شرود", للقاص محمد محضار
لايمكن للمهتم بالدراسات السردية أن يتصفح ",لحظة شرود", للأديب محمد محضار؛دون أن يتوقف قليلا بضغط من جاذبية العنوان و التمعن في ما توحي به الجملة الاسمية التي تدل على الزمان؛ لحظة/الوقتُ القصيرُ بمقدارِ لَحْظِ العيْن.
إنها جملة معجمية مفارقة ترن على ظهر الغلاف لتصطنع وضعية استقبالية جاذبة تلح على المتلقي أن يتوقف لينظر ويتأمل في الأشياء التي يلحظها.
ثم بعد ذلك تنسل الأسئلة على صفحات المجموعة القصصية لتخترق بهو القراءة وتستفز مقروئية المتلقي؛ليتوغل عميقا في مضمون القصص الستة عشر المشكلة للمجموعة القصصية.
إنها قصص تمنح القارئ فرصة الرحلة في متخيل السارد الذي يتتبع أقوال وأفعال وأحوال شخصياته عبر الفضاء القصصي؛ويقدمها لقرائه مجددا بطريقة مختلفة عما كانت عليه في الواقع.
وتمتاز",لحظة شرود", باعتمادها نوعا من الحكي الهادئ الذي يضمن تناسل الأحداث و المواقف بطريقة سببية تجعل القارئ متابعا لسيرورة حكائية يتولد بعضها من بعض.
ومجمل القصص تندرج في سياق السرد التقليدي الذي يؤمن بتلاحم أجزاء الحكاية وفق غايات ينشدها الحكي.
و المجموعة تعتمد نسقا فضائيا تؤسس به كل مستويات التمفصل الحكائي؛ التي هي تجليات لرموز فضائية بعضها من الطبيعة؛وبعضها من اللغة؛وما تبقى من فضاءات هو تركيب فني لحقليهما الدلاليين.
ففي قصة لحظة شرود ص16 نجد الشارد/السارد قد التقط فضاءاته من مدينة الدار البيضاء وبشكل خاص من شارع أفغانستان ومرس السلطان؛وفي نفس الوقت هناك فضاءات أنتجتها اللغة
",هناك أشياء غير طبيعية قد حدثت في أعماقي؛وأن هناك تغييرات جذرية قد مست جسدي", ص 16
حيث لم يعد المكان مسطحا كما كان قديما؛ بل أصبح المكان محدبا ومقعرا؛برانيا و جوانيا يدرك كإحساس ولا يرى بالعين المجردة؛حيث اللغة بطريقة تركيبها وبفنيتها تنتج سميائيات طوبولوجية تقوم وتنهض على وصف وإنتاج وتأويل اللغات المكانية كما قال",جريماص",.
فالقارئ لا يتفحص الفضاءات ولا ينظر إليها كأشكال وإنما يحولها إلى لغة مكانية ناطقة؛فنحن عندما نقرأ هذه القصة وغيرها نشعر وكأننا نتحرر من ضغط وضعيات فضائية تتخلق في رحم اللغة.
ومن جماليات السرد القصصي في ",لحظة شرود",الانتقال المفاجئ بالقارئ من فضاءات كان قد تعود عليها إلى فضاءات مختلفة تماما؛كأن يقع التحول المفاجئ من فضاء الشاطئ إلى فضاء بيوت الدعارة عبر بوابة التذكر و الاسترجاع كما هو الشأن في قصة خلوة ص23؛لقد تعمد السارد أن يقطع السرد في لحظة ما؛ لينقل البطلة من جولتها على شاطئ البحر و الاستمتاع برطوبة الجو ولذة رذاذ الموج وهو يبلل وجهها إلى تذكر أيام العهر و البغاء.
ولاشك أن هذا الانتقال المفاجئ يحدث في القارئ حالة انتظار؛تحفزه على تقصي خفايا متاهات السرد وتفريعاته؛حتى يتسنى له في نهاية التعقب جمع ما تشتت من جزئيات.
وفي الأخير نقول بأن القاص استطاع بتنويع طرق توظيف الفضاءات؛ إغناء الذاكرة المرجعية للمتلقي بصور جديدة لفضاءات معتادة؛ومن خلال هذا التنويع أسس بدائل تسمح ببروز قيمة الفضاء الواقعي و الاستعلاء عليه بالنماذج الأخرى؛لأن القصص المشكلة للمجموعة القصصية في حقيقة الأمر هي عالم مواز لعالمنا تأخذ منه أشياءها التي تنهض عليها تمثلاتُنا كقراء وتمنحه أشياء نسائل بها تمثلاتنا؛لأن العالم حولنا يحتاج إلى تشكيل فني نجحت ",لحظة شرود", في تجريبه على الخطاب الفضائي.
كما نلاحظ بأن كل المتواليات السردية تنطلق من الفضاء وتعود إليه؛مما يعطي لمجموع القصص لحمتها وترابطها؛فالقاص استطاع من حين لآخر؛وبالنسق التناظري؛ الخروج إلى الفضاء المحيط به لكي يخلق لقصصه خطابا فضائيا فنيا يوهم القارئ بحقيقة ما يحكي؛وكأنه يعيد إنتاج عالمه الخارجي بأسلوبه الفني؛المتحرك و المتنامي؛وكأن الفضاء القصصي يتحرك بتحرك الشخصيات وبتحرك السرد القصصي.
وهذا يفضي بنا إلى تتبع الشخصيات في الفضاء القصصي حيث إنها تبدو مرتبطة بالفضاء؛وتحولاتها مرتبطة بتحولاته؛فالشخصيات إما فاعلة في الفضاء أو منفعلة به؛وهنا يصبحون امتدادا للفضاء ويتشكلون بقيمه وتفاصيله.
محمد يوب
ناقد أدبي