إذا كان هناك من مدافع عن كوننا نعيش في زمن تسود فيه حرية الفكر (التعبير) والعمل، حتى يُتخيل إلى كل ناظر أنه لا حدود لأقوالنا وأفعالنا، فما يلاحظ هو أن جلّ خطاباتنا، سواء تلك التي ترد علينا أو التي نوجهها لغيرنا، تصاغ بطرائق موجهة، نحدد بموجبها ما وجب على المتلقي فعله، وما ينبغي تركه، وما يقع تحت الإختيار، بنفس الكيفية التي تخضع فيها أفعالنا لضوابط وقيود إجرائية تحدد الداعي إلى الإتيان بفعل ما، أو المانع عنه، وبذلك يتضح الرابط الذي نقيمه بين أقوال المرء وأعماله، إلى حدّ التسليم أحياناً بأن العمل يتقدم النظر، وأن للعمل القدرة على توجيه الأفكار، وإستمالة الإرادات وتحديد الرغبات؛ بل قد تذهب إلى حدّ الجزم بصعوبة إثبات الذات إقتداء بما هو فكر فقط، وعبر التمثل الذهني والتجدد الفعلي؛ بل إن وجودها يتكشف أساساً من خلال أعمالها؛ التي غالباً ما تكون ترجمة لأقوالها، فأنا فكر وعمل، وأنا أفكر بقدر ما أعمل، وأعمل بقدر ما أفكر، وبقدر ما نقول إن التفكير يعود بي إلى ذاتي، فإن العمل يدفع بي إلى الخارج، فأعمالي قد تكون احق من أن تجعلني مرتبطاً بمحيطي الطبيعي والإنساني؛ وهي التي تدفع بي إلى الإنفتاح عن العالم لأتفاعل معه بغية الإبقاء عليه على حاله؛ أو تبديله؛ إن كليّاً أو جزئيّاً.

من هذا المنطلق، وجب التسليم بأن العمل أهم وظيفة يرتبط بها الذهن بالعالم الخارجي، ذلك أن التفكير يعود بي إلى داخلي في الوقت الذي أنظر فيه مع نفسي في أمر ما، لأتدبره؛ بينما العمل يدفع بي إلى الخارج ليتجسد في العالم عبر أعمالي التي أنشد من خلالها الحفاظ على حالة الشيء، أو تغييرها.

وعليه، إذا كنا نسلّم بأن على المرء أن يعلم قبل أن يعمل؛ وأن يعمل وفق ما يعلم؛ فإن المعتبر بحسب خبرتي هو كوني أعلم كذلك وأنا في طور العمل، الأمر الذي يجعل العمل مقوماً للنظر؛ بنفس الكيفية التي يكون بها النظر مقوماً للعمل، وثم، صعوبة وضع حدّ فاصل بين الفكر والعمل؛ فأنا أعمل ما أقول بأنني سأعمله بواسطة فعل القوى ذاته، وأنا أوجد بقدر ما أعمل، فما الإنسان والعمل إلا شيء واحد، وكما أننا نبدع بواسطة الفكر، فالعمل بدوره قد يخلق الجديد، وقد يبدع ليعرض الفاعل أعماله أمام الآخرين الذين يبقون شهوداً على عمله.

وعليه، فالأعمال تحتاج بدورها إلى الأقوال التي تمكننا من معرفة مقاصد الفاعل، وتسعى إلى إيجاد بيئة لتداول الأفكار وتجانس الأعمال، فكل قول يستدعي العمل بنفس الكيفية التي يفترض بها العمل القول، فعبر العمل نحو الفكرة من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، لتبين ان قوة التفكر تنتهي إلى قوة العمل، فلو رغبت، فأنا راغب في شيء ما، وهذه الرغبة تولد الإرادة، التي تتطلب القدرة على التصرف، والتي تستتبع بدورها تحريك عضو أو أعضاء من جسدي لإنجاز هذا العمل.

بالتالي، يمكن القول إن الرغبة بإعتبارها حالة ذهنية توجه تصرفاتي عبر تحريك عضو أو أعضاء من جسدي، ومن ثم، فإن قوام الإنسان هي الفكرة التي تدور في ذهنه، والعمل الذي يتجسد في الواقع، وفق هذا نسلم بأنه بنفس القدر الذي نحتكم به للأقوال نحتكم به كذلك للأعمال، ليتضح وفق ذلك أن أقران الأقوال بالأعمال هو الذي يعكس ما للخطاب التوجيهي من أدوار حي يُدفع بالمرء إلى فعل شيء ما أو تركه.

ضمن هذه المقاربات يأتي هذا البحث الذي يحاول المؤلف من خلاله معالجة قضايا تتعلق بفلسفة الفعل في إرتباطها بفلسفة العقل، وهذا تطلب البحث في السبل التي يمكن بها لفكرة تدور في ذهني أن تنتقل بي إلى مرحلة الفعل، وبالمقابل كيف أنتقل من طور التصرف للعودة إلى الخطة التي اتبعتها قصد صقلها أو إعادة النظر فيها، وإذا ما رغبت في شيء ما، فإن ذلك يستتبع القيام بحركات جسدية محددة.

الأمر ذلك الباحث يطرح قضية العلاقة بين الحالات الذهنية والحركات الجسدية ضمن تصور عام يخص العلاقة بين العقل والجسد، فعمد بذلك إلى التميز بين الأفعال الإرادية وغير الإرادية، وبين الأفعال القصدية وغير القصدية، وتم بسط القول في القصدية إنطلاقاً من كون بعض الدارسين اعتبروها خصيصة بالكائن الطبيعي، فهي سمة أساسية تميز الإنسان عن الكائنات الأخرى، بالتالي تم البحث في قضية تتعلق بما إذا كان بالإمكان الإكتفاء بالقصدية لتمييز الفعل عن الحركة، وما إذا كانت القصدية هي الخاصية التي يمكن الإستناد إليها لوصف وتفسير الأفعال، هذا بدوره جعل الباحث يتناول وجوه التقارب والتباعد بين الإرادة والرغبة، ليخلص إلى أن الإرادة رغبة نرمي إلى تحصيلها، ومع ذلك فالإرادة شيء أكثر من الرغبة، فهي رغبة أحقق فيها ذاتي وأتعرف على ذاتي من خلالها.

وليكشف وفي هذا السياق عن التقارب والتباعد بين التكليف والأمر، وهذا أفضى بدوره إلى البحث في قضية تتعلق بما إذا كان بالإمكان تعريف الإنسان بالإرتكاز على ما هو فكر فقط، أم أن الأمر يقتضي إستحضار الجسد، وأن الجسد ليس مجرد آلة تابعة للعقل.

ولمناقشة هذه القضية انطلق الباحث من التصور الديكارتي القائل بأن ",الأنا المفكرة", تخص الذات المفكرة الواعية، وأن الجسد مجرد آلة، متبنياً دعوة مفادها أن المرء لا يمكن أن يقضي حياته في التأمل المجرد، وأن الوضع يقتضي النظر للذات كفاعلة كذلك... إلخ.

وبالجملة، فقد بين الباحث كيف أفضت التطورات التي شهدتها العديد من المباحث إلى حثّ المختصين في مجالي فلسفة العقل وفلسفة العمل إلى إعادة البحث في العديد من القضايا التي طرحت من قبل، خاصة ما يتعلق بطبيعة العلاقات بين العقل والجسد، والتي استتبعت قضاياتهم الروابط بين الوجه الذي تفكر به والوجه الذي تعمل به، ذلك أن إحدى الوظائف الأساسية للعقل تكمن في كونه يتلقى معلومات ليقوم بتنظيمها بصورة واعية أو غير واعية، وبهدف إتخاذ القرار، لننتقل بعد ذلك إلى طور التصرف. أقرأ أقل