وصف الكتاب
القلعة، تدخل إليها عابراً الجسر الذي يوصلك إلى بابها الرئيسي، ترى إلى يمينك باب الجبّات، ترى على سطح قوسه حبتين تتعانقا، وترى إلى الجسد يلتف بالجسد؛ جسدان ينتهي كل منهما برأس تنين مجنّح –رأس في الأسفل، وآخر في الأعلى- الجسد التنين، الجسد الأفعواني المُلتف: جسد هيمن بوصفه وحدة رمزية وتشكيلية، على تزيين الواجهات في المعاني الحلبية، في القرون الوسطى من حلب، انتقل إلى دمشق وإلى بلدان الأناضول، وسمّي معماريّاً، بـ ",العقدة السوريّة", في فن الزخرفة –الجسد التنين لغة اسطوريّة، ومادة لِقراءة الفلك، أو للتنجيم، كمثل سليم على باب الغيب. وهو في الوقت نفسه رمز للنص. هذا الجسد –التنين يوحد- بوصفه كذلك، وعبر الرؤية الفنيّة بين الأديان نفسها، حيث تتعانق معابد الأديان التوحيدية في هيكل الفن. لكن لا بدّ من التساؤل بوصفه تشكيلاً زخرفياً. أهو مجرّد طلّسم يمنع الشر من أن يقرع أبواب العمارات التي تتوج بها واجهاتها؟ أهو مجرد رمز طوطمي ينحدرمن الشامانية من سحرها وأسراره؟ أهو مجرد خيط سحري نصعد إلى فلك البروج؟ أهو مجرّد نذير لمن يحاول أن يعتدي، أو يغزو؛ وماالعلاقة هنا بين ثقافة الوثن، وثقافة الإله الواحد؟ في دهليز الدخول، بعد أن تعبر باب الجبّات، يواجهك تمثالان- أسدان تقابلان، تفصل بينهما، أي تصل بينهما، نخلة لعلها ترمز إلى الحياة. وفي طريقك إلى سطح القلعة، ترى نقشتين نافرتين، لنصفي أسدين، يبدو أحدهما أنّه يضحك، ويبدو الآخر كأنه يبكي، أهما معاً، رمز للوعد والوعيد، للثواب والعقاب، للحياة والموت، موحدين في نقش واحد؟ ذكرتني القلعة بعلوها المنخفض المتواصل مع المدينة بعلوّ الأكروبول وانخفاضه في أثينا. كانت البداية، مكاناً للعبادة، وقد وجد المتغنون فيها معبداً خفيّاً يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وجدوا كذلك معبدين رومانيين، حُولا في العهد البيزنطي إلى كنيستين، وفي العهد الإسلامي حوّلت الكنيستان إلى مسجدين، كأن المكان المشرف العالي هو الأكثر قرباً إلى الله في أعاليه.. للنقوش الكتابية فيها أهميّة تاريخيّة خاصة، فهو توضيح المراحل التي مرت فيها.
وقد اجتمع الباحثون على أنّ عدد هذه النقوش خمسة وخمسون، وهي قسمان: الأول يوضح فتوات التحصين والترميم وعدده ستة وثلاثون نقشاً. والثاني عام ومتنوع وعدده تسعة عشر. يعود أقدم النقوش إلى سنة 1072(465 هـ) ويميل اسم نور الدين الزنكي. ويعود أحدثها إلى سنة 1873(1290 هـ) ويشير إلى تجديد المقام السفلي لابراهيم الخليل. وتتضمن هذه النقوش كثيراً من الآيات القرآنية.
هكذا، علينا أن نمارس الكتابة بوصفها فعلاً ",جرمياً",: نقضاً، وهدماً. الكتابة التي تزلزل أسس الطغيان في مختلف أشكاله وتجلياته، سواءً في القيم، أو التقاليد، أو الأعراف، أو العادات، أو المعتقدات -الحجب التي تلتصق على أجساد المدن العربية كمثل طبقات كثيفة من القشور. الكتابة التي تقتلع هذه القشور، لكي يظهر النسغ الحي. الكتابة التي يبدو فيها العالم كأنه في حالة دائمة من التكون والتجدد بلا نهاية.