وصف الكتاب
ما يكون ماضيك، منظوراً إليه بعين السفر، في الجبهة الثانية من المنفى المتحرك... منفاك؟ أهو بعض ذكرياتٍ تسمك بك إلى الجبهة الأولى من طرف الماوية؟ أهو، أبعد من ذلك! أنت نفسك - في نموك، وفي تقدمك نحو ما تسميه المستقبل؟ والماضي، إذاً، ليس مجرد لباسٍ عتيق تحتفظ به للذكرى، أو ترميه وتتخلص منه، وإنما هو دمٌ مضمرٌ في دمك وفي جسدك.
ما يكون في ضوء الماضي الفردي، ذلك الذي تسميه الماضي الجمعي، أو التاريخي، وكيف نعيه فرداً؟ هل يمكن أن يكون إلا جمعاً لماضي الأفراد الخلاقين؟ جمعاً لتكون القراءات التي قدرت أن تعطي لأفكارها ولأفعالها جسداً حيّاً؟ أليست الإبداعات، إذاً، في مختلف تجلياتها، هي ",مادة", الزمن - ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؟ وإذا كان الإبداع هو ما يبقى حياً، فإن ماضيه لا يمضي.
أنه، على العكس، طليعة الحاضر، كأنه الوجه الأخر للمستقبل، وجزؤه الأكبر بروزاً وتقدماً، ولا وجود للمحاضر، إبداعاً، إلا بوصفه لحظةً نعيشها في قلب تلك ",المادة",، هكذا لا يتجزأ الزمن، إبداعياً، لا يتجزأ الزمن إلا رياضياً، في توقيته إصطلاحاً، ولا يكون السفر إلا حركةً من الكشف، خصوصاً أنه يبقي الوعي والهوية في حالة من اللاتعيّن، ففي السفر، مثل هذا السفر، قد تتداخل الحدود في الخارج، وتبقى واضحة.
غير أن الحدود في الداخل تفيم وتتأرجح، وإذ تتسع هذه الحدود تتسع حيرتك: ما حدودك، وما حدود الآخر؟ من أنت؟ وما هويتك؟ في كل حال، يكشف لك هذا السفر عن حقول فسيحة في داخلك لم تكن تعرفها، وإذ تدخل إليها، تكتشف مزيداً من مجهولاتك وتتعدل دروبك؛ تزداد فهماً لهذا المنفى المتحرك الغامض الفسيح الذي تعيش فيه، والذي تظل داخل فضائه، إنما توجهت.
آنذاك تكتشف أسئلة أعمق ما فيها أنها تبقى بلا أجوبة، تكتشف أن هناك غموضاً يتعذر جلاؤه، وسوف تكون الحياة نفسها متعذرة، إذا جلدناه بشكل كامل، تكتشف أن الغموض نفسه سفر، وأنه هواء آخر نتنفسه لكي تصبح إقامتنا على هذه الأرض أكثر متعة وجاذبية وأعلى شعراً، قلت: ",الفردي",، ",الجمعي",، لكن ما هذه ",الأمة", التي لا تقبل أحداً إلا إذا التهمته؟ لا تنتظر أي شيء، لا يفاجئها أي شيء، ترسمها المصادفة، وجراحها لون أول في هذا الرسم.
هكذا لا نرى اسمها وعملها مكتوبين، إلا في وقت الرمل، لو أن الماء ذاكرة لها، لكان أصبح من زمانٍ، تراباً، الممحاة وسادة أولى لأيامها، وقلت ",التوهم",؟ لماذا تنسى أن الأشباح قلما تذهب وحيدة للتنزه في غابات ",التوهم",؟... وقلت ",الحياة",؟ لكن، أين يكون قلم السماء، عندما تكتب الأرض خلائقها بجبر العبث والعنف، وأين يكون قلم الروح عندما يكتب الحب صبواته بحبر الجسد؟ وقلت ",الماضي",؟ وكثيراً، أصغيت إلى الطبيعة، وكنت أفاجأ دائماً: لا تتفتح شفتاها ولا تنطبقان الأعلى التكرار، غير أنه تكرارٌ يبدو كأنه بدءٌ دائم تبدو فيه الأشياء، كأنها هيَ هيَ، وكأنها في الوقت نفسه ليست هي، وقلت: ",السفر",؟ نعم، لا رفيق للطريق التي أسير عليها، اليوم، إلا قدما فصلٍ غامضٍ، كأنه فصل خامس، ويبدو أن طريقي هذه تتواصل في خصام يتواصل مع أقدام الفصول الأربعة: ",لا ترتاح نفسك إلا إذا وجدت تفسيراً للأشياء...
هي تلك فلسفة أدونيس التي نرشفها عذبة من خلال نصوصه التي حفل بها كتابه هذا ",رأس اللغة جسم الصحراء", يمضي أدونيس في أسفاره الفكرية التي تمتد عبر الرمان والمكان متزامنة حيناً مع أسفاره الفعلية (قرطبة، باريس، لبنان... دمشق) وأحياناً مع رحلاته عبر الفلسفة والفكر لتسطع تجربته حرفاً وكلمة وفِكراً.
",غيمة تمسح بيدها وجه غيمة شبه نائمة. غيمة تبسط يدها على وجه الشمس. عيمة تمد يدها كأنها تتسول الفضاء. حبل من الضوء، تقفز عليه الغيون كأنها طيور مهاجرة، غيوم يتحرك فيها المكان كأنها الزمن نفسه. أو لعل السفر، كمثل الخيال، يخلق أمكنة متحركة، محولة المكان إلى شكل من أشكال الزمن",.