وصف الكتاب
نجد في هذا الكتاب، نوعاً من الحبك ما بين الشرق والغرب، ومن خلال الخيوط التي يطرحها المؤلف، والتي يدعوها بالأمور المفيدة (السارية المفعول) في الرقص الذي ينتمي إلى التراث العربي-الإسلامي، والتي قد أشار إليها، أيضاً، بعض الرحالة الأوروبيين في القرن التاسع عشر، في زياراتهم إلى مصر. ومن هنا فهو يقوم بإنماء بحثه حول هذا النوع من الرقص، مستنداً على دراسة جوانب من الموسيقى والتخطيط الحركي، معتمداً في ذلك على دراسات عربية وأوروبية. وهكذا يطرح لنا المؤلف أكثر من اقتراح، ومن منطلقات اجتماعية وثقافية حول المعنى الذي اتسمت به هذه التطبيقات للرقص في العالم العربي. ولكنه يتوغل في ذلك من خلال تدقيق وتحليل، يساعد فيه القارئ الغربي العادي إلى ملاحظة الأمور بعيون متفحصة ومفتوحة. ومن جانب آخر، نجده يوغل في التحليل، بدلاً من البقاء في السطح، ويدخل في أبعاد الرقص الروحاني لطقوس الصوفية، باعتبارها جزءاً من التربية الروحانية للمريدين، وكوسيلة ملموسة للكشف عما هو جوهري في الحياة الباطنية، ومن خلال التمييز ما بين الواقع والوهم.
ويكسف لنا الكتاب عن وجود أنواع مختلفة من ",الوجد", (trance)، وجد روحاني نقي، ووجد آخر يشوبه التظاهر، كما أنه يشير إلى السماع السليم والسماع غير السليم. مؤكداً على أن الرقص، في هذه الحالة، لا يقوم بتفسير الموسيقى ولا يقوم بالتعبير عن النفس (لمن يرقص)، ولا هو عبارة عن عرض بالمعنى للرقص الذي تعرفه في الغرب: فهو رقص، إذن، له أبعاده الكوتية الرمزية، وفيه البحث عن الحق، وهو يخاطب الجسد والرأس والقلب، في سياق غنائية روحانية.
ونجد بعد ذلك مباشرة، هناك تناول رفيع المستوى في تحليل الرقص الشرقي، ذلك الرقص الذي التصق بصورة المرأة المثيرة في أنثويتها المطلقة. ويلتفت في بحثه إلى الرقص في الأماكن الراقية للحاشية في داخل القصور، وحضور النساء المتعلمات في تلك الأجواء، وكذلك المغنيات والشاعرات اللاتي كن يمارسن فنونهم في تلك الماسي الأدبية في إحياء الليالي للطبقة الأرستقراطية. ومن ثم يذهب للحديث عن الرقص في الاحتفالات والأعراس والحفلات العائلية. وفي كل ذلك لا تجد فارقاً كبيراً عما جاء من تصنيفات للرقص لدى النبلاء والأرستقراطية في تاريخنا نحن: وفي مجال الرقص المحترف (الباليه) وكذلك رقص الصالونات الراقية. ولكننا نجد هنا تركيز على نموذج واحد هو ",الرقص الشرقي", في طبيعته الثنائية ",الرقص الخالص", و",رقص المحاكاة",، وذلك ما نجده أيضاً، في الرقص الهندي الكلاسيكي، وفي الواقع أن هذه الإشكالية قد خضعت لنقاشات لم تهدأ لحد الآن، حتى في قلب الرقص المسرحي في الغرب: هل هو رقص سردي أم مجرد؟ هل يروي حكاية معينة أم يروي نفسه من خلال منطقه ونظامه الداخلي؟
ما هي حالة صورة المسرح الشرقي اليوم؟ هل هو لا يزال محصوراً في كونه رقصاً ثانوياً، هل لا يزال مرتبطاً بالماضي من دون دفعات تجديدية وهذه هي إشكالات، في الواقع، تواجه العرب، وليس وحدهم، وليس على المستوى الأخلاقي فقط، بل على المستوى الجمالي.
وهنا تبرز التساؤلات حول الفضاءات التي يحددها ويرسمها المجتمع في إدارة الرقص وكيفية التعامل معه، كوسيلة للمتعة (أبيروتزم)، وهي أسئلة قد طرحتها حضارات مختلفة، وكل واحدة منها أعطت إجابتها وحلولها، وفي فترات متعاقبة، وفي بعض الأحيان كانت متضاربة فيما بينها وهنا تدخل بعض النماذج من الرقص التي مرت من خلال عروض مختلفة مثل شهرزاد، وكارمن، سالومي، التي تدفع بنا إلى التفكير في إلتواءات الشرق التي قام في اسليته (جعلها نمطي) رقص الباليه الكلاسيكي، كما نراها، مثلاً، في عرض رايموندا (1898) (Raymonda) لـ بيتيبا ملازنوف الذي استقى إلهاماته من الأجواء العربية-المسيحية في فترة الحروب الصليبية، مع استخدام تنويعات حركية تموج باندفاعات مثيرة.
إذن، عن أي شيء تتحدث الانتقالات الرائعة التي نجدها في هذا الكتاب ",ذاكرة الجسد",؟
تتحدث عن ذاكرة بعيدة عن الغرابة (الإيزوتك)، أو بما يدعي ما هو آتي من العالم الثالث ومن سلفيات متعنتة، إنها ذاكرة تفاعل وتداخل ما بين الأقوام (أثنيات) متعددة، وثقافات مختلفة، تجدها، في كل الأحوال، وقد وضعت، من قبل البياتلي، تحت ضوء ساطع لبحث متأتي ومنتبه، بحث عشق مادته وتوقد بالولع الفكري.