روى أبو الفرج الأصفهاني عن المدائن أنه قال: سمع الفرزدق عمر بن أبي ربيعة ينشد قوله: (جرى ناصح بالودّ بيني وبينها، فقربني يوم الحصاب إلى قتلي) ولما بلغ قوله: (فقمن وقد أفهمن ذا اللب أنما أتين الذي يأتين من ذاك من أجلي) صاح الفرزدق: هذا والله الذي أرادته الشعراء فأخطأته وبكت على الديار! إن عبارة الفرزدق هذه تثير قضية من قضايا النقد الأدبي، هي هل يخطئ الشاعر وكيف يكون هذا الخطأ؟ إننا نعرف أن العلماء يخطئون، لأنه يدرسون موضوعات لا تحتمل نتائجها غير الخطأ أو الصواب، فهم يريدون اليقين العقلي، ونعلم أن الخطأ جاء من أن بعض هذه الموضوعات تستلزم من الإحاطة، ومن رصد الظواهر، وإجراء التجارب، واستكمال وسائل البحث وأدواته ما لم يتوفر لهم في كل حال.

وتاريخ العلم سلسلة طويلة من تصحيح هذه الأخطاء تبعاً لما تكشف عنه الجهود المتصلة المتعاقبة من جزئيات كانت مجهولة، وما تستوفيه من تجارب كانت ناقصة، ومن إحصاءات لم تكن من قبل مستوفاة. وكذلك نعلم أن الناس في حياتهم العملية يخطئون، فيتوقعون من وراء عملهم أشياء لا تقع، ويفعلون ما ينتهي بهم إلى غير ما كانوا يريدون وينتظرون، والخطأ في هذا السبيل واضح، وأسبابه دائماً قائمة، ومنشؤه غالباً الجهل في الربط بين الأسباب والمسببات، وعدم الإحاطة بالجوانب المختلفة للمسألة الواحدة؛ والناس يكتشفون هذه الأخطاء العملية في يسر لأن لها وقعاً خارجياً ملموساً. أما الخطأ في الشعر فكيف يكون؟ إن الشاعر يصف عواطفه نحو الناس، والأشياء، ويتحدث عن مشاعره أيّاً كانت هذه المشاعر، ويصور إحساسه بما يرى ويسمع ويتخيل، على اختلاف حالات هذا الإحساس، ويعبر عن أفراحه وأحزانه وأحلامه وآماله، مهما يكن بينها من تناقض. فكيف يقال في هذا أخطأ وأصاب؟ إن المألوف في الحديث عن الشعراء أنهم يوصفون بتفاوت الدرجة من نواحي العمق في المشاعر ورحابة الأفق وغزارة الإنتاج، والإجادة الفنية. ويتحدث النقاد ومؤرخو الأدب أيضاً عن الأصالة والتقليد، وعن البساطة والتكلف، وعن القوة والضعف، أما الخطأ فأمر آخر.

حقاً إن كلمة الفرزدق أو صيحته صدرت في لحظة من الدهشة والحماسة فعبرت عن شعوره في تلك اللحظة. ثم نسيها بعد ذلك، لأنه مضى، شأن غيره من شعراء عصره، يبكي على الأطلال، ولكن اللفظ الذي استخدمه، وهو الخطأ، يمكن أن يكون صحيحاً مع ذلك، ويمكن أن يصدق على بعض الشعراء؛ بل ويصدق أحياناً على عصور كاملة من تاريخ الشعر.

من هنا وبناءً على ذلك فقد تولد لدى صاحب هذه الدراسة شعور بصدق هذا الوصف أثناء دراسته لديوان ابن سناء الملك وموشحاته، مراقباً جهده العنيف في نظم قصائده في محاولة البلوغ بها إلى ما لم يبلغه أقرانه من الشعراء، وملاحظاً كيف انتهى به هذا الجهد إلى العقم، وكيف أن ما حرص عليه أشد الحرص من الابتكار والاختراع كان انحرافاً في فهم الشعر وخطأ في إدراك مهمة الشاعر، بل ويكاد شعراء عصره جميعاً، وقد عاش تحت ظل الدولة الأيوبية في القرن السادس الهجري، يتورطون جميعاً في هذا الخطأ والانحراف وأن يكونوا أقل منه درجة في ذلك، بحيث يمكن وصف العصر كله بالعقم والانحراف، منتهياً من ذلك كله إلى تساؤلات هي: من أين جاء إلى الشاعر هذا الانحراف، وما أسباب هذا الخطأ، وما هو المجهود الذي بذله في هذا السبيل، وما الطرائق التي سلكها ليحقق مثله المنشود فيما حسبه ابتكاراً واختراعاً؟ ويمكن القول بأن تلك التساؤلات شكلت بالمجمل لدى الباحث موضوع هذه الدراسة. أقرأ أقل