وصف الكتاب
",رفضت فاطمة عظماء الصندوق الخشبي وأسندته الى الجدار الشرقي. جلست ",ركبة ونصف", على حصيرة صغيرة موجودة، منذ دهر، بجانب الصندوق. تطاولت بعنقها كي تحتوي قلب صندوقها ببصرها الفضولي. عبثت بأصابع نحيلة بين أشياء مختلفة وكثيرة. أبعدت شمعة ذائبة، أزاحت مقص أبيها، هويته، سبحة الجدة وغطاء رأسها، جلبابها، مفتاح السطح، ...مفتاح قبو القبو، علبة هدية فارغة، أغلفة رسائل ممزقة أطرافها، مخباط الغسيل، صورة للميا المجنونة. طوت ورقة تقويم وأخرجت كيساً ورقياً تنبعث منه رائحة عتيقة، ألصقته بصدرها واستندت بظهرها الى الصندوق الخشبي. غداً تعود فطمة طفلة تحمل الخبز والجبن في الصرة البيضاء المزهرة باللون الأسود، تقطع الجسر الصغير بين الضفتين حتى تصل الى البرية. تختبئ بين الشق الشقيق مستنشقة رائحته غير العطرية، وتركض بين سنابل أرض صاحب الفرن القريب. تقطع رغيف الخبز لقيمات، وفوق كل قطعة خبز، قطعة جبن (عشامش) ومع كل لقمة قضمة من الخيار الطازج. تعود الى البيت مع بنات عمها اللواتي ينصرفن لعرايسهن القماشية المحشوة ببقايا الثياب البالية، وهي تمضي إلى كيس القنب حيث قصص ألف ليلة وليلة، تختار كتب التاريخ، كما شاء أبوها، تعدّ القهوة له مثلما كان يجب، تشعل المدفأة على طريقته، ترتب أشياءها في الخزانة، القبقاب أمام الحمام، الصلاة في غرفة الصلاة وعلى السجادة التي لا تطؤها إلا الأقدام الطاهرة. سوف تشرب حليب عنزة نمشة البدوية، بعد غليه في السطل النحاسي، كما كان يفعل، وسوف تجلس على مصطبة الدرج، حيث كان أبوها يلبس حذاءه النظيف منتظرة الفرنك الذي يناولها من الجيب الصغير لبنطاله...حداث عديدة، أخبار كثيرة وقعت في هذا الصندوق...",.وهكذا تمضي فطمة الشخصية المحورية في هذه القصة باحثة عن صور غامت في حضن الزمان. تتلمس فطمة من خبايا الصندوق صندوق الذكريات الكيس الورقي الذي يحتوي صور العائلة، قديمها بالأبيض، وحديثها بالألوان الشاحبة، لتمضي عابرة أطر الزمان والمكان، لتغيب في زمن اشتاقته وتمضي أحداث القصة التي ترسمها الروائية بدقة من خلال أسلوب شفاف يجعل القارئ يتماهى مع شخصياته بعد أن يراها متجسدة من خلال مشاهد حيّة تمرّ أمام ناظريه، متابعاَ حركة الذاكرة في صعودها وهبوطها، في حزنها وفرحها، لينتهي حيث تواجه فطمة نهاياتها.فطمة هي الوحيدة التي أدركت أن من اقتيد أسيراً لن يرجع أبداً، ففي صباح الجمعة، عاد رجال أبو شامة واقتادوا معظم من تبقى من رجال المدينة. كان اليوم الأخير من الهجوم، ظن الجميع أن الأمر قد انتهى هنا، لم يحسب أحد أن المدينة سوف تفرغ إلا من النساء وبعض الرجال، الذين لن يستطيعوا حلاً أو ربطاً. تحملت فطمة صراخ نساء أعمامها في وجهها، عندما أغلقت الباب الكبير قائلة:
-هربنا وهربتم، ظننا أننا نجونا، كل راح في اتجاه أما من اقتاده رجال أبو شامة فلن يعود.. لن يعود.
أخرجت صورة أخيها الصغير أحمد، الذي بال على نفسه عندما أمسكه أحد رجال أبو شامة من قبة قميصه، لوح به سائلاً معلمه:
-وهذا الولد هل نتركه أم نأخذه؟
فرد الولد:
-أنا صغير.
لكنهم دفعوه أمامهم وأخذوه.