",لقد وقع فارس في ازدواجية الزوجتين والخيارين، كما كان واقعاً دائماً في ازدواجية الوطنين والانتماءين، وما كادت تصل به الطائرة إلى أجواء تايلند حتى توقف قلبه عن الخفقان، فمات فارس في السماء وعلى مسافة واحدة من وطنين اثنين ومن زوجتين اثنتين ومن خيارين اثنين",.
هذه الرواية تفتح طريقاً إلى عالمين ...مختلفين بكل ما فيهما، طريق يوصل إلى حيث ينتمي المرء، وإلى جذوره الأولى في وطن تتحكم به قيم أقل ما يقال عنها إنها بالية. ووطن آخر يختاره المرء لأنه يمنحه الحرية والانعتاق من ربقة ",الوطن", الذي يتحول إلى سجن كبير في أحيان كثيرة. بين هذين الاثنتين عوالم من الذكريات والتداعيات تمتد منذ الولادة حتى الممات.. إنه ازدواجية المعايير والقيم والرغبات تتجلى في لحظة يصبح فيها المرء معلقاً بين وطنه الأول والوطن الذي اختاره بين عالمين كل ما فيهما متناقض. ومن هنا صعوبة الاختيار واستحالة اتخاذ القرار.نظر إلى الأفق الذي تعود أن يشهد مخاض ولادة شمس الصباح، وتحقق من بقاء شجيرات الحي على قيد الحياة، ثم سار في كل الدروب دفعة واحدة وكأنه كان يجري لنفسه امتحان الذاكرة والوجدان. تنشق ما حملته نسيمات الصباح وتعارف مع البيوت التي نبتت في غيابه، ومشى من دون خريطة هذه المرة، كما كان يفعل في أستراليا، حتى أوصلته قدماه إلى منزل والديه العتيق الذي تصادق مع طفولته الأولى وشهد على أولى تقاسيم الحياة التي صادقت عيني فارس مع الوجود. تفقد بيوت الجيران واستحضر في ذاكرته جارته العجوز التي توفيت بعد سفره بشهرين، وتوقف لدقائق أمام منزل دهري قديم كان له الشرف أن تسكنه نورة ف. -الجارة الطيبة الذكر التي شغلت مساحة كبيرة من قلب فارس ذات يوم، يوم كان قلبه قابلاً للخفقان، بل كان يخفق لكل خصلة شعر يداعبها النسيم وكل لمعة عين تنتقل على أجنحة الأثير. وبسرعة البرق انتقل فارس إلى الملعب الذي تعود أن يلعب فيه الكرة الطائرة مع أصدقاء الطفولة الذين ما لبثوا أن تناثروا في أصقاع الأرض البعيدة. حدق فارس طويلاً بالملعب الذي شاخت حصاه وانقرضت حشائشه فأعاد توزيع أصدقائه في أرجاء الملعب كما توزعوا ذات يوم، وكاد يتحدث مع أطيافهم، ثم كاد يجهش بالبكاء لكنه تماسك، فترحم علة من قضى وتمنى التوفيق لمن بقي على قيد الحياة ولم يفقد الأمل بلقاء بعضهم... ولو بعد حين.