وصف الكتاب
ماذا نتوقع حين تحّول مواطنةٌ أفغانية قاعدةً في الجيش الأميركي بأكملها إلى رهائن؟ هذا السؤال المحرك الذي حوّله الروائي جويديب روي - باتاتشاريا في روايته (المراقبة - The Watch) إلى قضية موضوعية (Thematic Statement) تسرد عالم الحرب الأميركية الأخيرة في أفغانستان في دائرة تجمع بين بسالة ",أنتيغون", شخصية في الأدب ...اليوناني القديم، رسمها سوفوكليس، بصورة متحدية ومستعدة للمخاطرة بحياتها كي يحظى جسد أخيها بطقوس الدفن المناسبة، وبين شخصية معاصرة من الباشتون وهي ",نظام", رسمها الروائي وشكّلها على غرار أنتيغون كي تواجه مصيراً مشابهاً لِما وصلت إليه أنتيغون في المأساة اليونانية.
ينفتح المشهد الروائي في ",المراقبة", على موقع القتال ",تارساندان", في مقاطعة قندهار/أفغانستان حيث ألقى الأميركان قنبلة أفنت عائلة من الباشتون بكاملها، وفتاة شابة تجر عربتها تنظر بعيداً إلى الجبال التي أمضت عمرها فيها. هي ",نظام", الناجية الوحيدة من الهجوم على منزلها، وقد بدت بدون ساقين؛ بدأت رحلتها وهي تضغط الأرض براحتي كفها تدفع عربتها إلى الأمام، تمضي عبر المسارات الجبلية الوعرة، قاصدة قاعدة للجيش الأميركي احتفظت بجثة أخيها فقررت المطالبة بها لكي تدفنها وفقاً للشريعة الإسلامية، لقد كان يوسفاً في نظرها ذلك البطل الباشتوني الذي قاوم الطالبان واستشهد وهو يحارب الغزاة الأميركان، باقتحامه معقلاً لهم. أما بالنسبة للأميركان فقد كان قائداً طالبانياً وإرهابياً ومتمرداً تسبب بموت رجال القيادة لذلك وجب التخلص منه.
تصل ",نظام", إلى القاعدة وتطالب بجثة أخيها فتواجه بالرفض والحذر، ويتم التعامل معها كانتحارية.. أما بالنسبة إلى جثة أخيها فيخبرها الجنود الأميركان إنهم بانتظار قدوم رجال سيأتون بالطائرة المروحية لأخذ جثته إلى كابول، حيث سيعرضونها هناك على شاشات التلفاز، ويجرون مقابلات مع الوزراء والجنرالات عن المعركة...
لقد أراد الأميركان من عرض الجثة استعراض قوتهم بإرسال رسالة واضحة لكلا الجانبين: ناخبيهم وخصومهم معاً. إنهم يقولون لحركة طالبان: أنت تناصبينا العداء، وسينتهي بك الأمر مثل هذا المسكين، ولمؤيديهم يقولون نحن لن نقدّم المزيد من الادعاءات الخاطئة المرتكزة على صور مفبركة من الآن فصاعداً.
بهذه الكيفية تُبرز رواية ",المراقبة", كواليس السياسة العسكرية والإعلامية للأميركان. تشخّص المدى الأقصى لنبذ واستئصال كل ما يهدد مصالحهم - وصول طالبان إلى السلطة - فيبدو المشهد الروائي برمته أشبه ما يكون بكابوس عبثيّ، يضع القارئ أمام عنفين: عنف القوة الأميركية وعنف الأصولية والمتمردين الأفغان.. ولإن الرواية لا تخاطب الباحث عن التسلية والتشويق فحسب، بل القارئ الباحث عن الحقيقة فيما يقرأ. فـ ",المراقبة", هنا تصور الأيديولوجيا التي يحملها الطرفان المتحاربان ويتم تظهير ذلك عبر الأحداث والوقائع السردية والأجواء النفسية والعسكرية والمحيط العام الذي يحتضن المأزق الواقعي الذي وقع فيه طرفي الصراع. ",أناسه قتلوا أناسنا",؛ ",لقد هاجمكم لأنكم هاجمتمونا أولاً",؛ ",تحت حكم الطالبان كانت أسرتي على قيد الحياة. والآن هم أموات. أيهما أفضل؟ الحياة أم الحرية؟",. عندئذٍ، والحال هذه، تصبح المهمة الأخلاقية المنوطة بالكتابة، هي تصويرُ الآلية التي يتم فيها قتل البشر والذرائع التي تبيح هدر الدماء، كما يصبح من أهدافها إحياء الذكرى، ذكرى الضحايا، وهذا ما فعله الروائي باتاتشاريا في رواية ملحمية سيخلدها التاريخ حتماً.
يقول الروائي جويديب روي - باتاتشاريا: ",... حاولت في رواية ",المراقبة -، أن أتخذ موقفاً معتدلاً. أنا أدخل النزاع، لا كمحارب، بل كوعاء تتردد من خلاله أصداء أصوات الأشخاص الذين لا صوت لهم، لكل من أُبعِد إلى ما أصفه بـ ",أرض الأضرار الجانبية الإحصائية", التي لا تنتمي لأحد، بالإضافة إلى أولئك الذين أرسلوا للقتال، والذين يعانون من الصدمات النفسية، والناجين الممزقين نفسياً. إني بتشكيلي لبطلة روايتي الشخصية بشكل واضح على غرار أنتيغون، إنما أعرض شخصية من الدراما التراجيدية اليونانية - لعلها أنقى الشخصيات فيها - من أجل تمكين القارئ المعاصر من الشعور بحزنها. حزنٌ هائل اكتسبنا، بالرغم من سلامة نواياها، مناعة تجاه التأثر به في عصر الحرب المتواصلة بلا توقف. إن ما يفسر التركيز على المأساة اليونانية هو الأهمية التي توليها الأخيرة لكرامة الإنسان وشرفه. لقد غيرت التكنولوجيا الحديثة الحرب عما كانت عليه في عصر سوفوكليس تغيرات لا يمكن إدراكها، إذ إنها جردت البشرية من شرفها وكرامتها. إن ضحايا المعارك، خاصتنا، يتم تهريبهم تحت جنح الظلام، وعدونا يحترق حتى يصبح رماداً بواسطة الطائرات بلا طيار. رواية ",المراقبة", هي استعادة لما فقدناه، وتحية للسلف اليوناني الموغل قدماً في الزمن. من خلالها، أوجدت مساحة صغيرة لأنتيغون الآتية من مدينة طيبة، مع إرادتها وعزمها الذي لا يضاهى، لأن تسير بيننا مرة أخرى، ولو للحظة واحدة حتى، محاطة بالثبات الوحشي والراسخ لروحها، ومشكّلةً جرس تنبيه ضروري لنا، وجاعلةً من هذه الرواية زجاجاً ننظر من خلاله لما يجري",.