وصف الكتاب
تبدأ رواية ",الميكانيكي", للكاتب السعودي طاهر الزهراني بعبارة للأديب الفلسطينيني ابراهيم نصر الله ", يقول فيها: (يفتش في الحلم عما يريد، وحين لا يجده يصطاده الصحو). ولعل اختيار الزهراني هذه العبارة بكل ما فيها من دلالات تنفتح على التفسير والتأويل خير دليل على شعور الإنسان بالعجز أمام تعقد النظم الاجتماعية ...المعاصرة التي أنهكت حياته حتى لم يتبق له سوى الحلم، يلجأ إليه ولكن شمس الصباح تأبى أن تتركه حالماً؛ فيعود إلى الواقع من جديد.راوي الرواية وبطلها هو (عادل) الميكانيكي الذي يقرر إخبارنا قصة حياته، ويختار منها لحظات معينة يقف عندها أو أياماً أحدثت تحولات في مجرى حياته، وكان ظنَّه أنها تسير به نحو السعادة، نحو الحب، نحو الفرح الذي يأتي من غير ميعاد، ولكنه لم يكن يظن أبداً أن كل هذا وذاك يمكن أن يذهب أحياناً أدراج الرياح ودون استئذان في لحظة صدق مع من أحب (سارة) الفتاة الجميلة التي جمعته بها صدفة اختارها القدر في الزمان والمكان، أحبها وأحبته، طلب منها الزواج، وعندما عرفت مهنته ذهب الحب هباءاً منثورا. ",أنا ميكانيكي", كانت آخر عهدي بحضورك المبهج، آخر عهدي بسارة التي أعرفها، لم أسمع لكِ حساً، حتى جوالك لا يرن، ربما قرار الحظر ناله. كل هذا لأني اعترفت بـ ",ميكانيكي", ربما تلومينني على عدم شفافيتي معك... هذه المهنة قدري!",.
ولعل الزهراني أراد بروايته هذه تعرية النفس البشرية وزيفها، لا بل نزع القناع الذي يغطي به الناس وجوههم، فسارة التي بدت في الرواية إنسانة مثقفة قارئة نهمة للكتب وصاحبة آراء ومبادئ ونظريات ما لبثت أن كشفت عن وجهها الحقيقي عند أول امتحان ",هذا برهان خيبة منكِ، توقعت وعيك وشغفك بالقراءة يتجاوز تصور العامة السطحي عن المهن، توقعت أنكِ تجاوزتِ ازدراء القبيلة، ولعنة الدون، ماذا تريدين مني أن أفعل؟!",.
وإذا كانت علاقة الحب المجهض بالفشل تشكل العمود الفقري في الرواية والخيط الأطول فيها، فإن القارئ لا يلبث أن يكتشف أن خيوطاً أخرى تلتف حول هذا الخيط، وتواكبه، وتلتف عليه، وهي خيوط تنسل بين الفينة والأخرى وتتداعى لتؤشر على الموضوعة الطبقية في مجتمع الكاتب والتي تتمظهر بصيغ ومظاهر مختلفة على مدى الرواية، ولكن هنا في هذه الرواية يتخذ الوعي الطبقي شكلاً متصالحا،ً مع الذات، ومع الواقع، لا بل يجنح نحو الرومانسية أحياناً. ",في الليل كنت أرتقي سطح بيتنا كنت أشاهد المكان الذي هُجِرت أغلب بيوته، كانت أنوار البيوت التي على جوانب المجرى مضاءة، مما يعطي صورة لمن يشاهد المنظر لأول مرة أن هناك نهر ضخم جداً، أسود ممتد إلى الغرب يشق الحارة... البنك الأهلي ذلك الرمز البشع الذي يحتل جزءاً من ذاكرتنا وبؤسنا، نربطه بالمكان الذي نعيشه، والذي هو أقوى دليل على الطبقية المقيتة...",. هذه الهوة بين يقبع في قاع الأرض وبين من يعتلي أبراجها الشاهقة لم تستطع ردمها المدنية الحديثة ولا المشاريع العملاقة لأنها اعتنت بالحجر ونسيت البشر، تناست (الإنسان) الغاية الأولى والأخيرة على هذه الأرض، وهو ما أراد الزهراني لفت النظر إليه بأناقته المعهودة في الكتابة من دون وخز ولا تجريح، لقد أضاء بالأدب ما يود قوله؛ وعلى ولاة العباد الإصلاح والمتابعة. وهذه غاية الأدب؛ أليس الأدب مرآة للواقع؟
هذه الحكاية يختلط فيها الخاص بالعام، والحب وبالحلم، وتتداخل في خطابها الروائي تقنيات الرواية واليوميات والرسائل، ويقولها الزهراني على لسان راوٍ واحد بصيغ متعددة هي المتكلم والمخاطب والغائب، وإذا كانت صيغة المتكلم تغلب عليها لأن الراوي - عادل - يقول حكايته، فإن صيغة المخاطب مردها إلى إكثاره من الالتفات إلى القارئ بين الفينة والأخرى، أما صيغة الغائب فيستخدمها حين ينقل عن - سارة - سبب ابتعادها عنه، وهنا، تبدو الحكايات يتولد بعضها عن بعض، ما يفيد بقدرة الكاتب على استخدام أكثر من تقنية في السرد ويعكس قدرة واضحة لديه على السرد بطواعية ومرونة خالية من الزوائد والزخارف، وأما اللغة فلم تخلُ من السخرية المُرَّة في مواضع متفرقة من الرواية أحياناً.ومن الشفافية في البوح أحياناً أخرى؛ وبهذه المواصفات تكون رواية ",الميكانيكي", رواية الحياة على هامش الزمان، والمكان، والوجود معاً.