وصف الكتاب
",الشقتان الوحيدتان المسكونتان بعائلات هما شقة أسرة صاحب محل أنتيكات مشهور في شارع هدى شعراوي، والشقة الأخرى تسكن فيها، وحدها بعد وفاة والديها، امرأة أربعينية. كثير منا لا يعرف اسمها الحقيقي، فهي مشهورة بــ ",القطة",، ربما بسبب نعومتها، وهدوءها، وابتعادها، وربما بسبب عينيها الخضراوين المستديرتين دائمتي الاندهاش، وربما بالأكثر بسبب علاقتها بقطط مناور العمارة وقطط الجراج والشارع الصغير خلف عمارتنا الضخمة الذي تطل عليه شقتها. البوابون، وسكان العمارة القدامى ممن كانوا يعرفون والديها، وأنا منهم، يراقبونها بهدوء وعطف، ويحترمون خصوصيتها ورغبتها في عدم الاختلاط والعزلة. تسمعنا نناديها عندما نقابلها: أهلا يا قطتنا، فتبتسم بطيبة، وتقول ما تعودت وتعودنا نحن عليه منذ زمن طفولتها الذي عاصرناه: مياو مياو، فتنتقل الابتسامة لوجوهنا نحن أيضا.لماذا اختار والداها هذه الشقة بالذات؟ دور أرضي، وضِلِمة، في وقت كانت فيه الشقق على قفا مين يشيل، كما كانا يكرران. ربما لأنهما كانا يريدان شقة قريبة من عملهما في وسط البلد، وتكون في الدور الأرضي، لأنهما يحسبان حساب الزمن عندما لن يستطيعا صعود السلالم، وعندما تفسد الأسانسيرات، بانهيار عمليات الصيانة أكثر وأكثر في مصر، كما توقعا في أول السبعينات عندما تزوجا. وقتها، كان كلاهما قد تجاوز سِن الشباب، وقررا أن يتوّجا صحبة العمل الطويلة في أروقة وزارة الثقافة، برفقة بيت وأسرة على كِبَر، خصوصا مع انقطاع أي علاقات لهما بأسرتيهما الريفيتين. المفاجأة الوحيدة في حياتهما المحسوبة والمنظمة والهادئة، كانت الطفل القادم بعد أقل من سنة من زواجهما. تقبلا الأمر بهدوء مسئول، ككل أمور حياتهما، وفكرا كيف سيطوّعان القادم الجديد ليتآلف مع نمط ونظام حياتهما حتى لا يفسدها عليهما. كانت المكتبة أهم جزء في البيت، وهكذا ظلت، حتى مع وجود الطفلة الصغيرة، التي تعلمت أن تخطو أولى خطواتها وتتحرك بحذر وسط أكوام الكتب والأوراق التي فاضت بها رفوف المكتبة فامتدت لتحتل أجزاء من أرض الصالة وغرفتي الشقة الوحيدتين. التغيير الوحيد، كان شفاط الهواء والروائح والدخان الذي تم تركيبه في المطبخ، ينتقل بجواره الزوجان، بالتناوب، ليدخنا بعيدا عن ابنتهما. يعرفان خطورة التدخين السلبي على صحة ابنتهما، إلا أنهما لم يفكرا للحظة أن يتوقفا عن التدخين، وهو ما قتلهما في النهاية، واحدا تلو الآخر، وابنتهما في بداية الدراسة الجامعية. وحدها ظلت في الشقة الصغيرة، تروح الجامعة وترجع. تخرجت ولم تعمل، فمعاش والديها يكفيها وزيادة. روتينها اليومي شبه ثابت. تخرج في الصباح الباكر، فتلف وسط البلد كله في ساعة، تتمم على كل ما تعودت عليه، وتلاحظ التغييرات التي طرأت، ثم تعود من سوق باب اللوق القريب ببضع أكياس فيها خضرها وفاكهتها، وأكل لقطط المناور والشارع. تضع أكل القطط في أطباق صغيرة تضعها في موعد معين جوار باب مطبخها. تخرج بعدها بقليل لتجد الأطباق فارغة، والقطط انصرفت لحال سبيلها، فتأخذ الأطباق لتغسلها استعدادا لليوم التالي، وتنظف الأرض جوار الباب بالفنيك والماء والصابون. لم يعترض أحد على طقسها اليومي، طوال تلك السنين، إلا عندما سكنت الشقة المجاورة لها، والتي كانت تستعمل كمخزن لأحد محلات الأنتيكات. الجارة الشابة زوجة التاجر، والتي ألحت على زوجها أن يسكنا في وسط البلد فأعد لها هذه الشقة بما يعجبها من ديكورات، لا تطيق القطط ومن يحب القطط. تفتح الباب عندما تسمع أصوات التنظيف في الموعد المحدد يوميا. التليفون المحمول تضغطه بين كتفها وأذنها، تتكلم وتتكلم، طول الوقت، وطفلاها يتعلقان بذيل الروب الذي تلبسه دائما فوق ملابسها داخل البيت. تلقح الكلام عن مجانين القطط، فترفع ",القطة", عيونها الخضراء المستديرة، وتبتسم.
",القطة", تعرف، غصبا عنها، عن جيرانها الجدد أكثر من اللازم. تسمع الخناقات عن إدمان زوج الجارة على المواقع الإباحية على الانترنت. لم يعد يتفرج فقط، ولكنه أصبح يشارك أيضا، ويبدو أن الموضوع أصبح منتشرا في بيوت كثيرة، كأنه وباء. خناقات، عن ",الشات",، وعن عدد الساعات أمام اللاب توب، وعن إهمال الزوج للجارة الشابة. تلاحظ ",القطة", تغير لون شعر جارتها للذهبي، وتسمع كلاما عن لبس اللانجيري، عن أحمر الشفاه الأحمر، وحتى عن بِدل الرقص، لكن يبدو أن كله بلا فائدة. تسمع أنها ستصُعِّد الموضوع. ستقول لعائلتها، لا، بل لعائلته. يغضب، ويهددها: ",إلا مَنظري، برستيجي، حذاري، وإلا سأفضحك أنت الأخرى. مِش مرتاح معاكي، مِش سِت، ومِش مكفيّاني",. تمنت الجارة أن تنصحه عائلته التي تنتمي لمنطقة شعبية قديمة في القاهرة، لكن فلوس الانفتاح غيّرت أشياء كثيرة. حقق عمل زوجها في تجارة الأنتيكات ومستلزمات الديكور نقلة مادية واجتماعية كبيرة لكل الأسرة، جعلت لا أحد منهم يجرؤ أن يفتح فيه عينه، وجعلت أسرة الجارة الأعلى اجتماعيا تقبل أن تزوجه ابنتهم، خريجة المدارس الأجنبية والجامعة الأمريكية، رغم الفرق الكبير في التعليم والثقافة. تسمعه ",القطة", يزعق: ",إعتبري إن ده يا ستي عيبي الوحيد. شايلك على كفوف الراحة، تطلبي تُجابي. آخر موضات أرجعلك بيها من سفرياتي في المعارض في بلاد في العالم، مجوهرات ",سينييه", في كل مناسبة. نِفسِك في شقة في وسط البلد: حاضر. بلاش تبدّل وتغيّر أو تبيع الأنتيكات اللي في البيت: حاضر. ما تجيبش الزباين يتفرجوا في بيتنا: حاضر. ما تجيبش سيرة أهلي، رغم إن فيهم العِبَر: حاضر",. تحمد ",القطة", ربنا. حياتها ليست نعيما مقيما، إلا أنها تؤمن أن كل إنسان يدفع ثمن اختياراته.
بدأت علاقة الجارتين فجأة، عندما رأت ",القطة", في يد جارتها شيئا مضيئا في حجم الكرّاسة، فأثار اهتمامها. الجارة الشابة لمحت في عيون ",القطة", أنها أبيض يا ورد في موضوعات التكنولوجيا والانترنت، رغم ذكائها الواضح وثقافتها العميقة الواسعة. الجارة أعجبها أن تتمريّس على ",القطة",، وأن تملأ بها فراغ حياتها ووحدتها في هذه العمارة الضخمة. ",القطة", صبرت حتى فهمت قليلا، ثم شكرتها واستكملت الطريق وحدها. اشترت كمبيوترا، وكتبا للتعليم، ونظمت لنفسها برنامجا دراسيا لعدة ساعات في اليوم. ساعدها إتقانها للغة الانجليزية، وتدريب الآلة الكاتبة الذي أصر عليه والدها في أحد مكاتب وسط البلد المشهورة. سألت شبابا يعملون في المكاتب في العمارة، وابتهجت عندما رأتني يوما أعود باللاب توب من التصليح، فابتسمت لي. أعتقد أنها فكرت أن السن لن يكون عائقا لتعلُّم ما لم تنشأ عليه.
",القطة", تعرف الصداقة التي كانت بيني وبين والديها، رغم فرق السن بيننا. تتذكر أني قلت لها بعد وفاتهما أنها تستطيع أن تعتمد عليّ كأخت كبيرة. لسنوات اقتصرت العلاقة بيننا على تحيات مقتضبة في المرات النادرة التي تَقابَلنا فيها في مدخل العمارة. كانت مفاجأة أن تتصل بي وتطلب مني أن أزورها لتريني شيئا خاصا تريد رأيي فيه. ذهبت وليس عندي أدنى فكرة أو توقع عما يمكن أن يكون هذا الشيء.",