وصف الكتاب
الفكاهة والسخرية مظهران من مظاهر النشاطات الفكرية الديالكتيكية. وهما فضلاً عن ذلك خاصتان إنسانيتان يتأثران بتأثيرات المجتمع الذي ينموان فيه. والواقع، أن كل مجتمع يطمح إلى الاستقرار ويعمل على ترسيخه وضمان ديمومته، وذلك بغية تأمين التوازن الاجتماعي على كل أصعدة الحياة وميادينها. لذا يستن لنفسه، خلال تاريخه، وبصورة عفوية آلية تشبه آلية الزمن، مجموعات من الأقيسة العامة يعتبرها القوانين المثلى التي تكفل استمرارية بقائه مستقراً، أو هي بالأحرى الحد الذي يحرص على التوازن ويفصل بين التنظيم والفوضى.
أما المجتمع فيتمشى على جوهر هذه الأنظمة التي يسميها روبرت اسكربيت ",بداهات",، ويحاكيها بلا وعيه لأنها جاهزة سلفاً في عقله وضميره ووجدانه. إلا أن المجتمع يكون غير قابل للتقدم إذا كان يدور في حلقة من البداهات المغلقة. ولكن ألا يتنبه لهذه البداهات أحد؟ على هذا التساؤل يجيب اسكوبيت قائلاً: ",إنه الإنسان الظريف الذي يكسر طوق البداهات لأنه لا امتثالي بالفطرة. واللاإمتثال هو ردة فعل على الضواغط التي تواضع المجتمع على تكريسها كقواعد ينساق لها جميع أعضائه، هنا الخروج على الانضباط الجماعي اللاواعي لا يتيسر للفكه أو الساخر دون استعداد فطري للمواجهة يسهل عملية الغربلة بين ما هو بد وأساسي بالنسبة للمجتمع، والذي هو عينه، شاذ بالنسبة للمغربل. فالباعث الأساسي إذاً للفكاهة والسخرية هو مناقضة رأي المجموعة أو ذوقه. إلا أن السخرية، ليست في أساسها، التفاتاً فكرياً سريعاً إلى البداهات الآلية في الحياة وحسب، لكنها مخاض عسير في ذات الساخر الذي يصعب عليه هضم كل ما يتلقفه عقله من أفكار جاهزة وكل ما تقع عليه عينه من مشاهد وتصرفات باركها المجتمع. إنها مواجهة حادة بين الذات والعالم، بين ما هو من قناعة الأنا الواعية وما هو مقرر ومفروض ولا يتأهب لهذا الصراع الشرس إلا الشخصيات القوية التي لها من المناعة ما يجنبها خطر التقوقع في الواقع لدى أول صدام، وما يجعلها تفرض آراءها ومبادءها فرضاً.
وهكذا كانت السخرية عند مارون عبود في حياته وفي أدبه. حب الفرض هذا، وهو يتجلى في كل أشكال السخرية، يعكس شعوراً بالتفوق لدى الساخر، ويجعله أكثر حضوراً إنسانياً مهما كان متخفياً وراء شخصيات قصته أو بيئتها أو حادثتها. فبينما يعلق الفكه البداهة بمعزل عن ذاتيته وذاتية صاحبها، نرى الساخر ينتهك البداهات المحرمة يمهرها بألمه وإن لم يصرح به، لأن مجرد التعبير عن الألم المكبوت، وإن أطلع ظرفاً أو ضحكاً، تفوّق وانتصار على المحرمات العنيدة التي تغدو ضعيفة سهلة القياد. هذا وإن المتابع والمتعمق في أعمال مارون عبود الأدبية يرى بأن الفكاهة والسخرية تطبعان مؤلفاته، فهما ليستا نزوة عابرة بل خاصة رئيسة من خصائص إبداعه، وهما فضلاً عن ذلك محملتان بأبعاد قد لا تؤتي ثمارها في إطار الوعظ والإرشاد، ومارون عبود إلى هذا مقلع من مقالع الجبل اللبناني، الذي جسّد في أدبه الفكه الساخر الجلدية الخلاقة التي قامت بين الإنسان اللبناني والعالم، وهو الذي عرّف القراء في العالم العربي إلى ميزات شعبه الفريدة، كما أنه مثّل في نقده التطبيقي عصراً بكامله، وذلك بشهادة الكثيرين من أدباء تلك الحقبة، وأن رجلاً تجاوزت مؤلفاته الخمسين، وقد توزعت في أنواع أدبية مختلفة التي يستطيع القارئ تلمسها من خلال هذه الدراسة، أطلّ في النقدية منها على معظم النشاطات الفنية في العالم العربي. وهو إلى هذا كله جدير بهذه الدراسة التحليلية التي تكشف للقارئ عن نزعة الفكاهة والسخرية في أدبه. أقرأ أقل