وصف الكتاب
لا يوجد في المؤَلَّف الشامل لرسائل ماكس فيبر موقعاً ثانياً يعلن فيه الباحث بكل حماس وبصفة مقنعة عن عمله الشخصي مثلما جاء في الرسالة التي بعثها إلى ناشره بول سيبيك في نهاية عام 1913، حيث يقول: ",بما أن الكتب تمثل مراحل ناقصة تماماً، وضعت نظرية سوسيولوجية كاملة ودراسة تربط بين جميع أشكال الجماعات الكبرى والإقتصاد: بدءاً بالعائلة والجماعة المنزلية وصولاً إلى ",المصنع", والعشيرة والجماعة العرقية والدين... أي وضعت في الختام علماً سوسيولوجياً شاملاً للدولة والسيادة.
وأسمح حقاً لنفسي بالقول إنه لم يوجد مثله شيء لحدّ الآن وليس هناك ",مثال", شبيه به.
من خلال هذا القول لا يبدو ماكس فيبر حقاً متجاسراً حين يعلن بأنه وضع شيئاً جديداً وغير معهود به، خصوصاً فيما يتعلق بــ ",علم الدولة والسيادة", المنصوص عليه أخيراً، لا سيما أن هذا العلم قد ذكر حرفياً لأول مرة في هذه الرسالة، لكن فيما تتمثل خصوصية هذا الشيء الجديد الذي أعلن عنه فيبر في علم السيادة السوسيولوجي؟ بماذا يتميز عن بقية الإقتراحات والمشاريع؟.
وللإجابة عن ذلك كان لا بد، وفي مستهل هذا الكتاب من إلقاء نظرة على السجال العلمي القائم آنذاك وتوضيح ما تتسم به سوسيولوجيا السيادة من حيث النظرية والتحديدات المفهومية القائمة عليها بكل جلاء؛ كما وإستجلاء الإطار العلمي والتاريخي الذي نشأ فيه علم السيادة، وذلك بالعودة إلى بعض المفاهيم المختارة والهامة من منظور سوسيولوجي للسيادة.
وكان لا بد، ومن أجل ذلك، الإستعانة بأمهات الكتب المعروفة في ميادين الحقوق وعلم الإجتماع واللسانيات التي كانت قد نشرت في مستهل القرن الماضي، وكذلك بالمؤلفات التي ثبت إستعمالها من قبل ماكس فيبر.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا المجلد / الجزء يضم بالإضافة إلى تلك الدراسة التمهيدية النصوص التي خلّفها ماكس فيبر حول السيادة والتي حررها في السنوات التي سبقت إندلاع الحرب العالمية الأولى؛ هذا وتجدر الإشارة إلى أن المؤلِّف لم يودع هذا المخطوط الضخم المطبعة طوال حياته، لكن، وبعد وفاته بقليل، وجدت زوجته ماريانا فيبر هذه المجموعة المحفوظة من الأوراق التابعة للمقالات الكبرى حول الإفتصاد والمجتمع، ختم نشرها ضمن الجزء الرابع والأخير من الكتاب، وقد ضمت المطبعة الأولى ما يقارب مئتي صفحة من التفاصيل حول السيادة.
وفي الفصول التي نشرت من طرف ماريانا بمشاركة ملشيور بالبي، تناول ماكس فيبر، معتمداً على معرفته الموسوعية أشكال السيادة الأساسية أي: البيروقراطية، السيادة الأبوية، الإقطاع، السيادة الكاريزماتية وكذلك العلاقة بين السيادة السياسية وسيادة رجال الدين.
وفي فصل التقديم القصير يوضح فيبر مفهوم السيادة ويشرح الموضوع في علاقته مع مقال كتاب ",الإقتصاد والمجتمع",، كما يضع أرضية المفهومية لما سيقوم بتطويره فيما بعد ضمن نظرية نماذج السيادة؛ ورغم أن صياغة سوسيولوجيا السيادة التي حررها ماكس فيبر قبل الحرب لم تكن جاهزة للنشر، بل كانت في حاجة إلى مراجعة نهائية قبل الطبع، فقد بدت ذات دلالة كبيرة من حيث التطور البيوغرافي للعمل، فهي توثق للمرة الأولى داخل العمل لنظرية سوسيولوجيا السيادة وما تبعها من حجج لتأسيس موضوع البحث الجديد الذي ظل ماكس فيبر يعمل على متابعته وتطويره حتى وافاه الأجل.
وقد واصل عرض هذا الموضوع في أعمال أخرى، كما جاء مثلاً في الملحق لمقدمة ",تقاليد الإقتصاد في ديانات العالم",، وفي المحاضرات حول ",إشكاليات سوسيولوجيا الدولة (فيينا 1917)", والسياسة كمهنة (مونيخ 1919)، وكذلك في الدروس الأخيرة التي قدمها في مونيخ حول ",العلوم السياسية العامة والسياسة (سوسيولوجيا الدولة) وقد وجدت سوسيولوجيا السيادة شكلها النسقي والتعريفي الكامل في فصل ",نماذج السيادة", الذي أودعه ماكس فيبر للطبع كجزء من القسم الأول من كتاب الإقتصاد والمجتمع قبل وفاته بقليل.
وبما أن هذه النسخة الحديثة العهد قد أذن بها المؤلف منها مكانة أخرى، وقد نُشرت في الجزء 1/ 23 من الأعمال الكاملة لماكس فيبر، أما هذا الجزء، فيعرض بالعكس، ما ورد في الصياغة الأولى من سوسيولوجيا السيادة بإعتبارهما تمثل الجذع الأساسي من النصوص المستقلة والتي يضاف إليها النص المنشور، خلافاً حول ",النماذج الخالصة للسيادة الشرعية", وكذلك تقريراً حول محاضرة فيينا المتعلقة بــ",إشكاليات سوسيولوجيا الدولة", هذان النصان الأخيران يكوّنان حلقة وسطى فاصلة بين الصياغتين القديمة والحديثة من سوسيولوجيا السيادة.
وهكذا، فإن هذه النشرة تتيح الفرصة لتتبع نشأة العمل البيوغرافي لسوسيولوجيا السيادة وتطوره، وفيما يخص الصياغة القديمة لـ",سوسيولوجيا السيادة، فإنه لم يُنقل عنها عنوان أصلي، أما العنوان الجديد الذي وضع لهذا الجزء، أي ",السيادة",، فهو يعبر عن مجمل النصوص الواردة في هذه الطبعة، في مقابل النصوص المخلفة من كتاب ",الإقتصاد والمجتمع",، كما يشير في الوقت نفسه إلى الطابع غير المكتمل للصياغة الحالية للنص.
ما طرحه ماكس فيبر في ",السّيادة: الاقتصاد والمجتمع", أسّس لـ ",مفهوم اجتماعي واضح للسيادة", لم يجده هو الآخر لدى سابقيه من أهل الاختصاص وحاول تعريف نماذج السيادة الخالصة بغضّ النظر عن الظواهر التي يمكن أن تتجسّد فيها عبر التاريخ. و هو ما جعله ينفرد بعمله هذا عن بقيّة معاصريه من رجال الحقوق و المؤرّخين وعلماء الاجتماع.
لقد عبّر ماكس فيبر في المصطلح Herrschaft عن عددٍ من الدلالات مثل الهيمنة والسيطرة والسلطة والحكم. إلّا أنّه حمل أيضاً دلالة سلبية تتمثل في العنف أو القهر الذي يصاحب دائماً مثل هذا الفعل السياسي، وهو ما حاول فيبر تجنبه في تحديده لهذا المفهوم باعتبار أنّه كان يرغب في تأسيس مفهوم أشمل يشرّع للسلطة بصفة عقلانية. تطوّر مفهوم السّيادة في مستهل القرن العشرين بالسجال الذي جرى آنذاك بين ماكس فيبر ومعاصريه من رجال القانون والمؤرّخين وعلماء الاجتماع الذين اهتمّوا بهذا الإشكال بحثاً عن التحديد الأقوم لنموذج السّيادة الذي يمكن التشريع له بصفة عقلانية. واختلف ماكس فيبر عنهم في تمكّنه من تحليل وسبر أغوار وتجريد السّيادة وحصرها في نماذج ثلاثة خالصة وهي: السّيادة البيروقراطية والسّيادة التقليدية والسّيادة الكاريزماتية. فمن خلال هذا التقسيم يتيسّر للقارئ التعرّف إلى أنماط السّيادة في إطارها المفهومي الخالص ثمّ السّعي إلى وضعها على محك التجربة حيث يمكن مقارنتها بالواقع السياسي والاجتماعي لاستخلاص النتائج التي قد تسفر عنها هذه التجربة. أقرأ أقل