وصف الكتاب
تعتبر الدراسات التاريخية الاقتصادية من أكثر الموضوعات صعوبة وتعقيداً، لذا يعزف كثير من الدارسين والباحثين عن طرق هذا النوع من الدراسات التي تحتاج إلى دراية واسعة باللغات الأوروبية الحديثة والوسيطة، وإلى صبر ودأب على استقراء الوثائق والنصوص والمعاهدات، بالإضافة على أن معظمها ليس في متناول أيدينا، رغم أنها الأساس لهذا النوع من الدراسات، ثم أن المراجع التي تبحث في هذا النوع من الدراسة شحيحة، وبعضها قاصر عن إيفاء الموضوعات الاقتصادية حقها المطلوب.
وتكاد تخلو مكتبتنا العربية من هذا النوع من الدراسة في العصور الوسطى التي يعتبرها الاقتصاديون حجر الأساس في تطوير النظم الاقتصادية في العصور الحديثة. لذا هدفت الدراسات والبحوث الحديثة إلى التوسع في هذه الموضوعات. وقد استهوت الدراسة الاقتصادية منذ فترى غير قصيرة, ومؤلف هذا الكتاب عكف على تتبع تطورها ونظمها، ووجدت أن أكثرها أهمية هي الفترة الأخيرة من القرن الخامس عشر الذي يعتبر من الكثير فترات العصور الوسطى أهمية بالنسبة للأحداث الجسام التي حدثت فيه وأدت إلى تغييرات جوهرية في العالم.
ولعل أهم هذه الأحداث وأولها هو سقوط القسطنطينية عام 1453 في أيدي القوات العثمانية، واندفاع هذه القوات غرباً إلى شرق ووسط أوربا، ثم مد حدودها بعد ذلك إلى البحر الأسود وإيران شرقاً, وقد عمدت في تحركاتها العسكرية إلى سد الطرق التجارية لدواعي الأمن، مما أثر فعلاً في التجارة وطرقها ومراكزها بين آسيا وأوروبا. ومع أن التجارة تحولت تماماً بعد هذا الحدث إلى موانئ مصر والشام والبحر الحمر، إلا أن الغرب الأوروبي كان قد مل التعامل مع المماليك بسبب كثيرة الضرائب وارتفاع رسوم الجمارك، وقوة الاحتكارات، مما دفع الأوروبيين إلى البحث عن طريق آخر أكثر أمنا، ووقع هذا العبء على عاتق البرتغال، فاندفع بحارتها، يحدوهم التحمس الديني، ويدورون حول أفريقية ويندفعون إلى الهند حيث تمكنوا خلال عدة معارك حربية من القضاء على نفوذ المماليك والسيطرة على تجارة الشرق. وكان هذا ثاني الأحداث الهامة في هذه الفترة من العصور الوسطى.
أما ثالث هذه الأحداث وأخطرها فهو الذي ختم العصور الوسطى وتم على عهد السطلان سليم الأول العثماني الذي قضى على دولة المماليك الجراكسة بالشام ومصر، وأنهى دور هذه البلاد الرائع في مجال الحضارة والحرب والتجارة.
وقد اتجه خلال كتابته في هذا الموضوع اتجاهاً اقتصادياً صرفاً، فأحط بشتى نواحيه شارحاً العلاقات الخارجية بين دول شرق البحر المتوسط وغربه، داعماً هذه العلاقات بالعديد من الوثائق والمعاهدات المنشورة والمخطوطة التي استفاد منها في استخلاص حقائق ونظم اقتصادية لم يصل إليها جهد الباحثين من قبل، وكان لا بد من البحث في الطرق والمراكز وأهميتها وما بقى منها وما اندثر حتى وصول البرتغاليين للهند، والعثمانيين للشرق العربي، والذي أدى إلى انهيار اقتصاديات المنطقة بعد قرون عديدة زاهرة.
وقد ألحق بالكتاب عديداً من الوثائق المخطوطة والمطبوعة، وملحقاً خاصاً بالخرائط التوضيحية للطرق والمراكز، وثبتا وفياً بالمراجع العربية والإفرنجية التي رجع إليها.