وصف الكتاب
الصدق والحياد، قدر المستطاع، والمتانة والعمق في المعرفة والمنهج.. كانت هذه من أولى صفات مؤرخي العرب زمن نهضتهم وتجليها في دمشق وبغداد والقاهرة والمغرب والأندلس. وكان البحث هاجس الأمة بأسرها. والبحث العلمي يؤدي إلى التفتح والتوسع في العقل وفي الزمان والمكان. إن الباحثة، أوليفيا ريمي كونستبل، جاءت من وراء المحيط لتبحث في ماضي الأندلس، ولتعطينا درساً يذكرنا برواد الحقيقة والمعرفة في عصر النهضة العربية في الأندلس، وفوق ذلك، فإن علم التاريخ الحديث قد أصبح أكثر رسوخاً وتشعباً وانتشاراً بين الناس.
إن قراءة كتاب كونستبل عن التجارة والتجار في الأندلس، تذكرنا بالأمجاد.. ولكنها تشدنا وتمنعنا من الغرق في النرجسية، والذاتية الإنسانية السلبية. وتعلمنا الصبر في الفهم والتروي في إطلاق المشاعر المجانية. كيف وصل العرب إلى الأندلس، إحدى أهم بقاع أوروبا الغربية؟ وماذا فعلوا هناك خلال ما يزيد على خمس مئة سنة؟ ولماذا أخرجوا منها وزالت سيادتهم ولغتهم؟
على الرغم من أن كتاب كونستبل يبحث في التجارة، لا يتوقع القارئ أن يجد فيه أجوبة على مثل تلك الأسئلة الكبيرة. ولكن كلنا يعلم أن التجارة تزدهر من وراء الفائض والاقتصاد الناجح، والأنظمة الحرة المفتوحة. ونعلم أن الاستهلاك والعوائد خير دليل على معرفة الفرد. هكذا أعطتنا الباحثة صورة تطور الحياة الاقتصادية، وانعكاساتها السياسية لا العكس. وبتنا نعلم أن غياب وحدة مصالح العرب المسلمين ونمو مصالح الأوروبيين، رغم فرقتهم السياسية، قد أدت إلى انهيار سيطرة المسلمين على تجارة عالم العصور الوسطى واقتصاده. ولكن كيف حدث ذلك؟ إن كونستبل تخرجه من وثائق التجار والمؤسسات التجارية آنذاك، وتفد للقارئ في نطاق هذا الكتاب.
كما أرادت أسبانيا (قشتالة) المسيحية ظهرها إلى البحر الأبيض المتوسط لتلتفت إلى الأطلنطي وشمال أوروبا، كذلك فإن مصر المسلمة قد أدارت ظهرها إلى البحر نفسه لتلتفت بعيداً إلى الجنوب والشرق. وتحول المتوسط شيئاً فشيئاً إلى بحيرة أوروبية شمالية مسيحية.. يمتطي فيه المسلمون وبضائعهم مراكب خصومهم؟
كيف نصل إلى الأسباب الحقيقية لانحسار العرب عن أسبانيا الأندلس، وتقدم الأسباب من سكان قشتالة وكتالونيا؟
-ما هي الأسباب الحقيقية لتقهقر الحاكم المسلم وتقدم الحاكم المسيحي الأوروبي؟
كيف تحول التفوق العلمي والفكري إلى الخصم؟ ما دور التجارة والتجار في ذلك؟ هل كان الحاكم أم الأفراد أم التجار، وراء ذلك التحول؟
لم يظهر حتى الآن كتاب يبحث في تاريخ العرب المسلمين ويستخدم جميع الوثائق التجارية في مصر وجنوى وبيزا والمصادر التقليدية العربية. كما هي الحال في هذا الكتاب. ولعل السمعة العلمية لمؤلفة الكتاب في جامعات الولايات المتحدة، تجعل منه أول عمل تاريخي يفصح عن الأسباب الحقيقية لنهاية تاريخ العرب في الأندلس، لا بل بداية نهايتهم في عالم قوي ",العالم الحديث",. ترى هل نستفيد ويستفيد إنساننا العربي وحاكمه بالذات من تجربة الأندلس؟
فالمؤلفة تستحق كل الإعجاب والتقدير لحيادها وعلمها وتقديمها الأطراف المتنازعة المسلمة والمسيحية واليهودية، في ذلك الوقت، وعلى المستوى التجاري والسياسي بصورة تاريخية علمية جامعية تفيد الباحث والطالب والحاكم والتاجر و",القائد الاستراتيجي",.
إن هذا الكتاب درس في البحث والمنهج، ودرس يجب أن نتعلم منه لبناء علاقات أكثر وعياً مع الماضي وبالتالي مع الحاضر ومع المستقبل.