وصف الكتاب
من المعلوم أن رومية وقرطجنة نشأتا معاً على جانبين متقابلين من بحر الروم، وظلت الحروب الطاحنة مستمرة الضرام بينها مدة مائة سنة، وعدد الحروب التي نشبت بينها ثلاث خرجت رومية من ساحاتها ظافرة منتصرة في آخر الأمر ودكت قرطجنة إلى أساساتها.
ولم يكن ثم من باعث حقيقي على إقتتال هاتين الأمتين، فالنزاع بينهما قد تأتى بإختيارهما عن المزاحمة والشحناء، فإختلافهما الأصلي نشأ عن تباين في اللغة والأصل وعن إستيطانهما جهتين متقابلتين من البحر الواحد.
وبهذا كرهت إحداهما الأخرى وعملت على سحقها وإبادتها، والذين قرأوا تاريخ الإسكندر الكبير يذكرون دون ريب الصعوبة الكلية التي عاناها في محاصرة مدينة صور والتغلب عليها، وهي مدينة بحرية يبعد موقعها عن الشاطئ نحو الميلين قائمة على الجانب الشرقي من بحر الروم، وابتنى قرطجنة جماعة من المستعمرين نزحوا عن صور وبنوا المدينة الجديدة فأصبحت قوة بحرية وتجارية عظيمة كأمها، واتبنى القرطجنيون المراكب العديدة التي مكنتهم من إكتشاف مجاهل بحر الروم، وزاروا على متونها كل الأمم الساكنة على شواطئه، واشتروا منه كل الحاجيات المختلفة التي كانوا يتجارون بها ويحملونها إلى الشعوب الأخرى ويبيعونها لهم بأرباح وفيرة، وبهذا أحزوا غنى ",وقوة", في مدى قصير.
وكانوا يستأجرون الجنود ليحاربوا حروبهم وليمكنوهم من الإستيلاء على جزائر بحر الروم وعلى بعض الأماكن الداخلية في بعض الأحيان، مثال ذلك أنهم في أسبانيا التي مخرت إليها مراكبهم وجدوا المقادير الكبيرة من ركاز الذهب والفضة استخرجوها من معادن بادية على وجه الأرض تقريباً، واستولوا أخيراً على ذلك القسم من أسبانيا الذي توجد فيه تلك المعادن وصاروا يستخرجون كنوزها بأنفسهم متعمقين في الحفر كثيراً واستخدموا لذلك الغرض جماعة من المهندسين ابتدعوا المضخات لكي ينظفوا المعادن مما يتسرب إليها من الماء ولكي تتوفر لهم الوسائل العلمية والآلهية التي تمكنهم من التغلب على سائر العوائق، وهناك ابتنوا مدينة أطلقوا عليها اسم قرطجنة الجديدة - نوفا كرتاجو - وحصنوا هذه المدينة وأقاموا فيها حامية عسكرية واتخذوها مركزاً لأعمالهم في أسبانيا ولا يزال اسم تلك المدينة قرطجنة إلى اليوم.
وهكذا كان القرطجنيون يتمّون العظائم بقوة المال، وقد خصوا بالذكاء - والرومانيون سموه دهاء - وبالنشاط والإقدام على الأعمال الكبرى وبالثروة الطائلة، وكان مزاحموهم من الجهة الأخرى موصوفين بالنبوغ والشجاعة والقوة يصحبها جميعاً تصميم أكيد هادئ راسخ ونشاط غريب أصبح بعد ذلك في جيل وفي أذهان الشعوب ملازماً لكلمة ",الرومانيين", عينها.
وبقيت هاتان الدولتان المتزاحمتان مثابرتين على النمو المتتابع والتوسع في الملك كل منهما على جانبها الخاص من ذلك البحر العظيم الذي فصلها عن بعضها مدة خمسمائة عام قبل أن تدانتا من الإصطدام، وأخيراً حدث التطاحن المنتظر.
وكانت المعارك بينهما تجري بين كرٍّ وفر، وقد استمرت الحرب زماناً بلغ أربع وعشرين سنة إلى أن أصبح الفريقان في حالة وهن مما أدى إلى عقد معاهدة صلح كانت الميزة فيها إلى جانب الرومانيين، وقد برز خلال هذه الحرب القرطجنية الأولى البطل القرطاجني هميلقار، ليرثه في بطولته في الحرب القرطجنية الثانية ابنه هنيبال المشهور، الذي كان مقداماً منذ حداثة سنة حيث كان شديد الشوق الوصول إلى الوقت الذي يتاح له فيه الزحف بجيش لمحاربة الرومانيين.
وبعد أن بدأ أبوه هميلقار بالتوسع في فتوحاته وغزوه أسبانيا وإجتياحها لم يمهله القدر بإستكمال خططه هناك فحلفه هسدروبال، زوج ابنته، على القيادة، والذي طلب من حكومة قرطجنة إرسالة هنيبال ليكون معه في الجيش، وكان حينها في الحادية والعشرين من عمره أو أكبر من ذلك بسنتين، ذلك ما ورد في مؤلفات أبوت عن ",صانعي التاريخ", وبعد جدل تم إرسال هنيبال إلى أسبانيا، فلم تطأ قدماه المعسكر حتى برهن على أن هذا الشبل من ذلك الأسد.
وقد شهر له أعداؤه، حيث يقول الرومانيون أنه كان داهية مكّاراً وذا دربة فائقة في إيصال نيران الحروب، وفي الواقع وبعد أن تولى قيادة الجيش، أبدى دراية متتاهية في حركاته العسكرية، وإستطاع الإنتصار بجيش قليل العدد على جيش أكبر منه عدداً بطريقة وحشية، وذلك من أول حروبه إلى آخرها.
وهكذا يتابع المؤلف في كتابه قصة هذا البطل الذي كان قائداً قرطاجنياً أحرز شهرته الطائرة كأعظم الكماة بتهالكه في محاربة الرومانيين.