وصف الكتاب
في مقابلة مع إذاعة ",سي.بي.سي", البريطانية، قال نيلسون مانديلا وهو يصف نفسه، رداً على سؤال يتعلق بكونه في سيرته يذكر بسيرة المسيح: ",لم أكن مسيحياً في يوم من الأيام، ولكني مجرد إنسان عادي وجد نفسه زعيماً نتيجة ظروف غير عادية",. هذا حقيقة ما يمكن تسميته تواضع العظماء. فمانديلا لا يتواضع هنا طلباً للمديح، أو هو يشعر بأنه عظيم ويحاول إخفاء ذلك تواضعاً يزيد من عظمته، بقدر ما أنه يعبر فعلاً عما يشعر به الرجل. فالعظيم الحقيقي ليس هو من يعتقد بعظمته، بل هو ذاك الذي يدفع الآخرين للاعتراف بعظمته دفعاً، حتى وهم لذلك كارهون. وهذا هو بالضبط ما حصل مع مانديلا، حتى من قبل ",الأفريكانز",، أو مواطني جنوب أفريقيا من البيض. وفي المقابلة ذاتها، ورداً على سؤال حول تقويمه لزعامته، قال ",لقد ساعدتني في أن أجعلكم تشعرون بإنسانيتكم",. وفي محاكمته عام 1962، وهي تلك التي كان يواجه فيها خطر الحكم عليه بالإعدام.
تحمّل مانديلا كافة مسؤوليات الاتهام، ولم يتنصل من مواقفه، أو يتخلى عن مبادئه، كما لم يحاول البحث عن مخرج لتخفيف الحكم أو لعبة قانونية تتيح له البقاء، على العكس فما فعله زعيم آخر، في ظروف مشابهة أثناء محاكمته، ونعني بذلك الزعيم الكردي عبد الله أوجلان. وقال مانديلا في تلك المحاكمة: ",طوال أيام حياتي، كرّست نفسي للنضال من أجل الشعب الأفريقي. لقد قاتلت ضد هيمنة البيض كما قاتلت ضد هيمنة السود. لقد كنت دائماً مؤمناً بنموذج الديموقراطية والمجتمع المفتوح، حيث يعيش كل الناس بعضهم مع بعض بانسجام، وبفرص متساوية. إنه نموذج أرجو أن أعيش من أجله وأحققه. ولكن إذا استلزمت الحاجة، فإنه نموذج أنا على استعداد للموت من أجله",. وفي ملاحظة كتبها في ما بعد، وسرّبت إلى الخارج، كتب مانديلا: ",سوف يكون خاسراً كل من يحاول حرماني من كرامتي، سواء كان ذلك شخصاً أو مؤسسة",.
في هذه الكلمات المتناثرة لأشهر سجين سياسي في القرن العشرين، يمكن تلمس تلك المفاتيح التي جعلت مانديلا شخصية غير عادية، وهي العادية في أعماقها، تقف جنباً إلى جنب مع عظماء التاريخ، إلا أنه فعل الكثير بلا فعله، وتحوّل إلى رمز لقضية وطنية معينة، وهي قضية التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، ورمز لقضية إنسانية الإنسان وحريته وكرامته في كل مكان من هذه الدنيا.
هكذا يتحدث تركي الحمد عن نيلسون مانديلا في إطار استعراضه لأبرز عشرين شخصية سياسية في القرن العشرين. كتب الكثيرون في هذا الموضوع، وأرّخ آخرون لشخصيات سياسية متميزة، ولكن يبقى لكتابة تركي الحمد عن الشخصيات السياسية التي اختارها والتي كان لها دورها في صنع جزء من تاريخ البشرية، اتجاه آخر، ونكهة أخرى.
إنه حديث مغرق بفكر فلسفي تنضح من ثناياه سمات الإنسان الذي ترك بصماته على الزمن انطلاقاً من شخصية كان لها طابعها الخاص الذي حفر عميقاً في التاريخ الإنساني إما سلباً أو إيجاباً. هذا وإن ما اعتاد عليه القارئ في مثل هذه الكتابات أن يجد نفسه أمام نبذ سردية تاريخية حول الشخصيات التي هي مثار البحث، إلا أن القارئ سيجد في طيات هذا الكتاب قراءة في الشخصية وفي عمقها، وتحليلاً متميزاً هو موضوعي لدرجة يقف تركي الحمد منها على مستوى الحياد في تصنيف شخصيته التي يتناولها. واستقراءات تركي الحمد هذه هي كتابة في التاريخ معاصرة يستفيد منها القارئ والدارس والباحث وعالم النفس وعالم الاجتماع كل على حدّ سواء. وهي إلى هذا نافذة من نوافذ الإبداع الإنساني عموماً والعربي خصوصاً يفتحها تركي الحمد على آفاق الدراسات التاريخية.
المهمة التي ارتآها هذا الكتاب صعبة وشاقة: أشخاص كثيرون عبروا التاريخ، وتركوا بصمات واضحة فيه، وغيَّروا كثيراً من أحداثه، فهل كانوا من يسيِّر دفة هذا التاريخ، أم أن هناك قوىً خفيةً تسيِّرهم جنباً إلى جنب مجتمعاتهم، أم أن الظروف هي التي أوجدتهم، وبرغم ذلك عرفوا كيف يتحكمون بمسارها.
يسعى تركي الحمد بدايةً إلى إيجاد صيغة توافقية بين هذه الرؤى، وهو يسخر من نظرية ",نهاية التاريخ",، معتبراً أنها مسألة نسبية، كما لا يأخذ بـ",صراع الحضارات",، مفضلاً أن يعتمد طريقاً ثالثاً بينهما.
يسلّط هذا الكتاب الضوء على أحداث قرن مضى، كما يركز على مدى تأثير وجود شخصية البطل في تغيير مجرى الأحداث. واختار لهذه الوظيفة ",غير العادية", عشرين شخصية لعبت دوراً بارزاً في مسار أحداث بلدانها... والعالم.
الشخصيات التي اختارها الحمد لا تنتمي إلى عالم واحد ولا إلى أيديولوجيا واحدة. غاندي، لينين، روزفلت، تشرشل، ستالين، ماو تسي تونغ، هتلر، تاتشر، ريغن، غورباتشوف، محمد علي جناح، لوثر كينغ، عبد العزيز آل سعود، عبد الناصر، تيتو، نهرو، هرتزل، بن غوريون، الخميني ومانديلا: أسماء تناولها هذا الكتاب في ",نظرته الوداعية", لأحداث قرن مضى، وهي شخصيات كان التاريخ، بلا ريب، سيبدو مختلفاً كثيراً لو لم تكن موجودة.