وصف الكتاب
يقف القارئ اليوم، في هذا العمل، أمام جهد رائد من رواد فكرنا الفلسفي المعاصر رحل عنا منذ فترة، هو عبد الرحمن البدوي الذي أسهم منذ 1939، وربما قبلها وحتى 2002 بإنتاجه الفلسفي الذي ألهم، وما زال يلهم، الباحثين ويمدهم بمصادر الفكر الغربي القديم والمعاصر، والتراث العربي الإسلامي، وإبداعه الفلسفي تأليفاً وتحقيقاً وترجمةً، بما لا يستغني عنه الباحث، والمثقف، والمتخصص في مجال الدراسة الفلسفية.
والحقيقة أن بدوي، بما قدمه من كتابات إنما هو أسس ويؤسس ليس فقط للدراسات الفلسفية وإنما لخلق وعيٍ عربي معاصر، أو ما أسماه في أول دراساته عن نيتشه 1939 ",ثورة روحية", تواكب الثورة السياسية، فأهمية بدوي ورواد الدراسات الفلسفية العربية المعاصرة هو تأكيدهم الدائم على دور الفلسفة في تأسيس الوعي والروح التي يمكنها خلق حياة جديدة، ونظرة جديدة للكون، والحياة، والتاريخ، فتأسيس النظر أساس العمل.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الهدف من دراسات هذا الكتاب حول عبد الرحمن بدوي إنما يدور حول قيمة ودور الفلسفة في حياتنا، كما يدور حول دور الرواد الذين مهدوا الطريق بإنتاجهم الذي قدموه، وما زالوا، وتؤرقهم هموم ",الفكر والوطن", وليس فقط سؤال عن الطيور المهاجرة، والنسر البعيد، والرائد الغائب/الحاضر. لذا فإن تكريم بدوي الحقيقي يتمثل في إنتاجه وما قدمه في حياته الحافلة، لكن درس أعماله وبحثها ومناقشتها، الذي تقوم به الطليعة الواعية من أساتذة الفلسفة والعلوم الإنسانية، في مصر والوطن العربي، واهتمام دور النشر المختلفة بنشر أعماله وتقديم دراسات حوله، من خلال تلاميذه ومن تتلمذوا على كتاباته مثل: محمود أمين العالم، وحسن حنفي، وأميرة حلمي مطر، وأحمد صبحي، وغيرهم ممن يقدرون جهده، هو تأكيد لدور وأهمية الفلسفة في هذا الرمز والقيمة الكبرى في حياتنا الفكرية. فهو كما أطلق عليه أنور عبد الملك، ",عميد الفلسفة العربية", فقد تزامنت دراسات هذا الكتاب مع عودة بدوي إلى الوطن بعد رحلة عطائه الفلسفية أستاذاً بالجامعات العربية والإسلامية، وباحثاً في التراث العربي الإسلامي، ومدافعاً ضد افتراءات الاستشراق.
وهذه الدراسات تتكون من عدد من الأبحاث التي كانت قد أعدت للاحتفال به في الندوة الدولية التي عقدت في القاهرة في النصف الثاني من مايو/أيار 1997، وشارك فيها عدد كبير من الأساتذة في مصر والعالم العربي وفرنسا، من تخصصات شتى، بالإضافة إلى عدد كبير آخر من الأبحاث قدمها أساتذة من لبنان والعراق والجزائر وتونس.
وهي مقسمة إلى أربعة أقسام: الأول من ",مبتكرات بدوي",، وهو يشمل دراسات تتناول أعمال الفيلسوف في إطارها النظري العام، ويضم ثمان دراسات: افتتحت بدراسة الدكتور حسن حنفي عن ",الفيلسوف الشامل، مسار حياة وبنية عمل، عبد الرحمن في عيد ميلاده الثمانين",. ويتناول حنفي بدراسته المطولة، التي تكون بمفردها كتاباً عن بدوي، والتي تم جعلها افتتاحية لهذا الكتاب، أعمال الفيلسوف بالحوار، حيث يناقش، في فقرات سبع، جهود بدوي والأطر الكلية للكتابات من خلال مفهوم الحوار أولاً: من جيل إلى جيل، ثانياً: الفلسفة على الاتساع، ثالثاً: الجبهات الثلاث، رابعاً: المشروع الفلسفي العلمي، خامساً: المشروع الفلسفي النهضوي (الأنا)، سادساً: المشروع الفلسفي التاريخي (الآخر)، سابعاً: المشروع الفلسفي الإبداعي (الواقع).
وأما القسم الثاني فهو يشتمل على ثمان دراسات أيضاً قدمها أساتذة متخصصون في الاجتماع والتاريخ وعلم النفس والفلسفة وجاءت حول: عبد الرحمن بدوي الفيلسوف المتوحد وتحوله من السياسة إلى العلم، جهود بدوي في التأريخ لعلم الكلام، عبد الرحمن بدوي ومكانته في الفلسفة الإسلامية الحديثة، قراءة عبد الرحمن بدوي لابن خلدون، ومن تاريخ الإلحاد إلى تاريخ التصوف قراءة من أعمال بدوي، وأخيراً ثلاث دراسات جاءت حول العلاقة بين التصوف الإسلامي والمذهب الوجودي عند بدوي.
ويدور القسم الثالث حول بدوي والفلسفة الغربية سواء لدى اليونان القدماء أو الأوروبيين المعاصرين. أما عن القسم الرابع، الذي يدور حول إسهامات بدوي الأدبية ففيه أربع دراسات أولها عن الأخلاق بين الخطابة والنقد الأدبي ودور أرسطو وعبد الرحمن بدوي، والثانية عن الشعر والوجودية، والثالثة عن بدوي في دراساته في الآداب الغربية، والرابعة جاءت بمثابة تحليل عن رحلة بدوي من خلال الكتاب (الحور والنور). هذا عدا ملاحق الكتاب التي تكشف عن قول الأجيال التالية في جهد الرائد.
إن تكريم الروّاد سمة ثقافية هامة ذات دلالات متعدّدة الغرض منها بالأساس مناقشة القضايا التي أثاروها والحوار معهم حولها، فالجدل والحوار من السمات الهامة التي تميّز الفكر الفلسفي.
وهذه الدراسات حول عبد الرحمن بدوي تحوي عدداً من الأبحاث في تخصّصات شتى من أساتذة عرب وفرنسيين في محاولة لتكريم أحد رواد الفكر الفلسفي المعاصر هدف في جميع كتاباته إلى خلق وعي عربي سمّاه في بواكيره ",ثورة روحية",.
فأهمية ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بدوي تكمن في تأكيده الدائم على دور الفلسفة في تأسيس الوعي والروح التي يمكنها خلق حياة جديدة ونظرة جديدة للكون والحياة والتاريخ.