وصف الكتاب
يمثل هذا الكتاب حصيلة ميدانية من الداخل ومتابعة نقدية من الخارج لتجربة الاستشراق في يوغسلافيا، التي تتميز دون شك بخصوصية واضحة. فيوغسلافيا كانت قد أقيمت في 1918 على مناطق كانت تتبع أعتى إمبراطوريتين منهارتين (العثمانية والنمساوية) ومثلت بهذا مزيجاً ما بين الشرق والغرب بالمفهوم الجغرافي والسياسي والثقافي.
ولكن الظروف السياسية التي رافقت نشأة يوغسلافيا لم تسمح لمثل هذا التداخل بين الشرق والغرب أن يتفاعل بحرية وأن يتطور بأصالة. وهكذا في الوقت الذي بدأ فيه المسلمون في البوسنة في الاهتمام بتراثهم الشرقي (المدوّن باللغة العربية والتركية والفارسية) خلال الحكم النمساوي الأول (1878-1908) والضمّ الكامل (1908-1918)، الذي استفاد من خبرة الاستشراق النمساوي/الألماني، جاء تأسيس أول فرع للاستشراق في بلغراد (1926) بمفاهيم استشراقية جديدة تعبر بشكل واضح عن النزعة الأوروبية المركزية، التي تميز بين الذات والآخر وتوظف ذلك لأغراض سياسية بعيدة المدى. وإذا كان هذا النوع من الاستشراق يخدم سياسة يوغسلافيا الأولى/الملكية (1918-1941)، التي قامت على تهميش المسلمين فيها إلى أقسى حد، فإن يوغسلافيا الثانية التيتوية، (1945-1980) أطلقت الآمال لاستشراق جدي لا يقوم على ثنائية الذات الآخر-بل يعتبر (الآخر) جزءاً صميمياً من تكوين يوغسلافيا الجديدة.
وبالاستناد إلى ذلك فقد عرف الاستشراق في يوغسلافيا زخماً جديداً خلال الخمسينات والستينات، وذلك مع تأسيس أول معهد للاستشراق وقسم آخر للاستشراق في سراييفو (1950)، تمثل في الاهتمام بالتراث الشرقي في يوغسلافيا باعتباره جزءاً من التراث المحلي/الوطني وفي الانفتاح على الثقافة العربية الإسلامية بروح جديدة/روح عدم الانحياز. لكن هذا التطور الذي أخذ يفضي إلى مفهوم/واقع جديد ليوغسلافيا بعد 1966 أدى إلى تبلور معارضة جديدة في صربياتتهم تيتو بـ",تشريق", يوغسلافيا في إطار انشغالها الزائد ببلدان العالم الثالث/عدم الانحياز وتتظاهر بالدعوة إلى ",الرجوع", إلى أوروبا.
ولا شك أن دعوة ",الأوربية", المزعومة التي كانت تخفي أجندتها الخاصة والتي ترافقت مع تضخيم ",الأسلمة", الحاصلة في يوغسلافيا، وما كان لها أن تجد صدى في الشارع الصربي بعد وفاة تيو (1980) وانتقال المعارضة إلى العلنية لولا الدعم الذي وجدته لدى بعض المستشرقين في بلغراد. وبالاستناد إلى هذا كله يمكن القول إن الكتاب يقدم دراسات عينية حول هذا التطور الجديد للاستشراق في يوغسلافيا الذي لم يأخذ حقه من الاهتمام والتحليل لأسباب مختلفة.
وهكذا يجد القارئ أولاً دراسة بعنوان ",مفهوم الآخر للاستشراق في يوغسلافيا", تستعرض الظروف التي برزت فيها الأفكار والجهود الأولى لبلورة مفهوم آخر للاستشراق في يوغسلافيا، ثم هناك دراسة أخرى بعنوان ",الافتراق في الاستشراق اليوغسلافي: النقاش حول المركزية الأوروبية في الثمانينات", التي توضح الظروف الجديدة التي أدت إلى تبلور الفرز بين مفهومين/فريقين مختلفين في إطار الاستشراق في يوغسلافيا، وتأتي الدراسة الثالثة ",تسييس الاستشراق: نموذج ميرولوب بفتيتش", لتوضح كيف تم توظيف الاستشراق لخدمة السيناريو الجديد للانقلاب على يوغسلافيا التيتوية. وبالإضافة إلى هذه الدراسات المحورية يوجد في الكتاب مقالات عن مؤسسات الاستشراق وشخصيات رائدة ومراجعات لكتب توضح كلها السياق العام لهذا التطور الذي ميّز الاستشراق في يوغسلافيا.