وصف الكتاب
إن هذا الكتاب، الجاهز والناجز بالصورة التي يبدو عليها، هو كتاب يمكن تشبيهه بعملية ظلت مستمرة حتى بعد خروجه للناس في المرة الأولى (1960). فغادامير ظل سنين طويلة، في كتابة كتابه العمدة هذا، يتأنى في بلورة فكره، ويتأنى في إعلامه. وبعد أن أعلنه ظل يعمل، ويواصل العمل، على هذا الكتاب... في أكثر من مناسبة، كان غاداميرا يزيد صقل كتابه مكملاً، وملحقاً وشارحاً، ومستدركاً، ويوضح ما غمض، ويفصل حيث أجمل، ويزيد على الكتاب ما عن له من جديد، ويضيف إليه مساجلات جديدة: فجزء من آلية كتابة غادامير هو الخوض في مساجلات باتت تحمل اسمه طرفاً مهماً في تاريخ الفكر المعاصر، وفيلسوفاً عملاقاً في زمننا الذي صارت فيه جذوة الفلسفة آخذة بالخبو.
نظرة عجلى على سطح الكتاب تكفي لتأكيد ذلك: الملاحق، والتكملات، والزيادات حتى على هوامش الكتاب هي، بالتأكيد، جزء من الكتاب: أو هي جزء من عملية الكتاب. فالكتاب لم يتوقف عن النمو في حياة المؤلف، وسيظل كذلك حتى بعد أن رحل مؤلفه.
إذا لدينا هنا قصة يحكيها هانز جورج غادامير عن جانب ثر من الفلسفة الغربية، قصة صعبة ومشوقة ورائدة. فالكتاب يسعى إلى إعادة النظر في التراث الغربي وتاريخه، ويضعهما في الميزان حتى ينتج تقييماً جديداً لهما. وبهذا المعنى وحده، يكون الكتاب مغامرة هائلة. فالظاهرة التأويلية تنفتح على يد غادامير رحبة، بل أرحب ما تكون عليه، وذلك حين يختبر تجربة الفن والتراث نشداناً لفهم العلوم الإنسانية عبر محل المنهج ويسد الثغرات التي تتخلف من جراء استخدامه. إذ يسعى غاداميرا إلى تبين ضرورة الفكر التأويلي للعلوم الإنسانية، الأول ينير للثانية سبلاً أوعب لممارساتها، ويجعلها دائماً على أهبة الاستعداد لمتطلبات تفرضها ظروف متغيرة دائماً أيضاً.
إن الكتاب إيجازاً قصة التأويلية والتأويل. وهذان الأخيران يطويان في أحشائهما الحارة قصة الإنسان المؤول، هذا الذي عمر الدنيا بتأويله -حين رأى في التأويلية إيماناً بـ",فن تجنب سوء الفهم", وإيماناً بـ",رحمة الاختلاف",، وما أحوج الثقافة العربية إلى مثل هذا الفن وهذه الرحمة -وجازف بخرابها به أيضاً- حين رأى فيها طريقاً هيناً للتورط في سوء الفهم ولعنة الخلاف- وبكلتا الرؤيتين ألقى بنا هو نفسه- بالأديان والفلسفات، وبالحروب والكروب، وبالفن والتكنولوجيا، وبالفكر والعمل بالحب والكراهية... الخ، إلى هذا المصير الأخير: عالمنا الحديث، وما ها العالم الحديث إلا مصير خطه الإنسان المؤول إنسانياً منذ البدء، وفلسفياً، بحسب هيدغر ومريده الأول غادامير، منذ الإغريق، إنه قدر لا مهرب منه، ومصير لا محيد عنه.
وانطلاقاً من هذا الموقف، تتواشج الرؤية الفلسفية الغاداميرية مع الرؤية الشعرية الريلكوية، تلك الرؤية التي يجليها غادامير في قبسة الكتاب التي يختارها من عالم ريلكه. إذ ينتقد ريلكه معالم الحضارة الإنسانية الحديثة بانهماكها بالتقنية، ويقيم استنكاراً حاداً ضد مآل حياة الإنسان إلى مثل هذا الركون إلى أحابيل التكنولوجيا، ويصر على محاربة هذه النزعة وتأمل علاقة أخرى بين الإنسان والعالم. وغادامير يحارب في الكتاب أغلال العلم، ويحاول أن يوسع من أفق البحث لا بالاعتماد على المنهج الذي أضحى لديه لا يوصل إلى حقيقة، بل بممارسة تأويلية تضمن فك القيود، قيود البحث، والحياة من ثم. فهل يكفي هذا تعليلاً وتسويغاً لتلك القبسة الشعرية لريلكه التي تتصدر هذا الكتاب؟ لا، إذ إن ثمة شيئاً آخر يريد أن يجليه غادامير عبر هذه القبسة، ذلك هو تناهي الوجود الإنساني ومحدودية آفاقه مهما بدا طموحه جنونياً ولا يعترف بالحدود. وذكر ريلكه يبرز ",تجربة التناهي الإنساني", التي برزها غادامير في تحليله لمفهوم ",التجربة",.