وصف الكتاب
منذ تشكيل الدولة العراقية في عام 1921 مروراً بإستقلالها من الإنتداب البريطاني في عام 1932 إلى إطاحة النظام الملكي وبدء العهود الجمهورية العسكرية منها والبعثية، وصولاً إلى دولة ما بعد 2003 الأقرب إلى النظام الديمقراطي؛ لم يتمتع العراق بإقتصاد سوق حرّ حقّاً بالمعنى الدقيق المفهوم لهذا المصطلح.
يقوم إقتصاد السوق الحرّ على فكرة أساسية تنتظم حولها الحياة الإقتصادية في بلد ما، وهي أن علاقات العرض والطلب في السوق هي التي تحدّد إلى حد كبير الواقع الإقتصادي في المجتمع، صعوداً أو نزولاً، مع وجود محسوس للدولة عبر القوانين والأنظمة كرادع للإستغلال والإستئثار، وكوسيط نزيه لحلّ النزاعات، بهذا المعنى تكون مهمة الدولة في إقتصاد السوق الحرّ هي مجرّد ضابط لإيقاع هذا السوق من دون السيطرة عليه أو توجيهه مع السعي إلى إيجاد حدّ أدنى من العدالة الإجتماعية.
وعليه لم يتطور في العراق الحديث نظام رأسمالي؛ لأن البلد لم يشهد ظهور الإقتصاد الرأسمالي فيه بما يعنيه هذا من بروز الصناعة والشركات الكبرى وأصحابها وطبقة المال وسوق مستهلكين واسع.
كانت الدولة العراقية منذ تأسيسها في العشرينات تنتمي إقتصادياً إلى مرحلة ما قبل الرأسمالية، أقرب إلى النظام الإقطاعي منها إلى أي نظام آخر، إذ كان الإقتصاد الزراعي هو الشكل الأساسي للإنتاج وتهيمن على هذا الإقتصاد مجموعة من كبار الملاّكين دخلوا تدريجيّاً في تحالف سياسي وإقتصادي مع رجالات الدولة الوطنية الجديدة.
أعاق هذا التحالف بروز الإقتصاد الرأسمالي على نحو واسع في البلد، لكنه لم يمنع ظهور بدايات هذا الإقتصاد، وإلى ستينات القرن العشرين حين ساد فكر الإقتصاد الإشتراكي في العراق اختفت بقايا السوق الحر التي تشكلت في العهد الملكي الذي سمح بقدر أوسع من الحرية الإقتصادية ومقارنة بالعهود الجمهورية التي تلته.
ويمكن القول إن تغيير 2003 ونهاية الحكم البعثي الذي تزعمه صدام حسين، لم يغيّر الطبيعة الأساسية للإقتصاد العراقي حتى مع تبنّي الدولة العراقية بعد عام 2003 منهج إقتصاد السوق الحر، إذ بقي هذا التبني شكليّاً فقط، ولم تتبع سياسات جدية لتفكيك شركة الإقتصاد الإشتراكي وسيطرة الدولة على الإقتصاد.
حول هذا الموضوع يأتي هذا الكتاب الذي يهدف إلى تناول بعض جوانب المشكلة البنيوية المتعلقة بعجز الدولة العراقية عن تطوير إقتصاد حيوي يقوم على السوق الحر يقود إلى تنويع الموارد عبر بناء قطاع خاص قويّ وواثق وواسع، مقترحاً بعض الحلول لهذه المشكلة البنيوية.
يركّز الكتاب على موضوعه الرئيسي بهذا الصدد وهو إدخال أنواع جديدة من الإستثمار المالي العراقي في أسواق البورصة العالمية عبر آلية شهادات الإيداع الدولية كمصدر لتنمية رأس المال الإستثماري في العراق، وهو ما سيأتي شرحه في فصول الكتاب.
وعلى نحوٍ أكثر تحديداً، يقترح هذا الكتاب أن يستخدم العراق الأداة المالية المعروفة بــ ",شهادات الإيداع الدولية (GDRs) لجذب الإستثمارات الأجنبية ويشار إليها أيضاً بإسم ",شهادات الإيداع الأميركية", (ADRs) عند إصدارها لبورصات الولايات المتحدة الأميركية، لا يوجد حالياً أي تشريع في العراق يسمح على نحوٍ صريح وواضح ومباشر بإصدار شهادات الإيداع الدولية؛ لكن في الوقت نفسه لا يوجد أيضاً أي تشريع يحظر إصدار مثل هذه الشهادات.
وإلى هذا، ولوضع الأمور في سياقها التاريخي والمؤسساتي المناسب، سيتتبع الكتاب التطور الإقتصادي للعراق من النظام الملكي حتى الوقت الحاضر لتحديد التحديّات الهيكيلية والتاريخية التي يواجهها البلد، ثم النظر في التغيّرات التي حدثت في السنوات التي تلت الإطاحة بنظام صدام حسين مع التركيز بشكل خاص على الإستثمار وذلك في سياق قوانين الحكومتين: الإقليمية الكردية والإتحادية في بغداد؛ فضلاً عن تناول الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفي العراقي لجعله أكثر جاذبية للإستثمار الأجنبي، كما سيتناول الكتاب موضوع شهادات الإيداع الدولية بوصفها أداة الإستثمار المالي وتجارب دول مختلفة في إستخدام هذه الشهادات بنجاح لجذب الإستثمار الأجنبي.
في هذا السياق سيتم أولاً تناول تجربة ما يعرف ببلدان بريكس (BRICS) ثم بعض الأمثلة من خارج هذه المجموعة، تليها دراسة تجارب شهادات الإيداع الدولية في العالم العربي، وأخيراً سيقترح الكتاب كيفية إستخدام شهادات الإيداع الدولية في السياق العراقي عبر الإستفادة من الدروس الإيجابية والسلبية من تجارب الدول الأخرى من أجل تطوير طريقة مناسبة عراقياً لجعل البلد جذباً للإستثمار الأجنبي سواء للأفراد أو المؤسسات من فوق شهادات الإيداع الدولية.