وصف الكتاب
طرحت قضية التنمية نفسها على شعوب العالم الثالث غداة الحرب العالمية الثانية من أجل الاستقلال السياسي الذي لم يكن غاية في حد ذاته وإنما هو بداية للتطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، حيث واجهت البلدان النامية بعد حصولها على استقلالها السياسي أن عليها أن تتصدى لمهمات بناء اقتصادياتها التي كانت ترزح تحت وطأة الاستعمار (السياسي والاقتصادي) والذي استمر سنين طويلة يستنزف مواردها لصالحه وجعلها سوقا لتصريف منتجاته وحتى نفاياته،كما ساهم في تخلف تنظيماتها الاجتماعية، الإدارية والفنية. لقد ظلت قضية التنمية الاقتصادية تمثل إحدى الرهانات الكبرى للدول النامية على اعتبار أنها الخيار الوحيد للتحرر من التخلف الاقتصادي، من هذا المنطلق وللتخلص من التخلف وسد الهوة الواسعة والمتزايدة في ميادين تراكم الثروة والمعرفة والحرية التي تفصل شعوب هذه البلدان عن الشعوب المتقدمة، وضعت الدول النامية التنمية بشكل عام والتنمية الاقتصادية على وجه أخص قضيتها الأولى وجندت لها في سبيل ذلك مواردها المختلفة مادية كانت أم بشرية. وقد تباينت تلك الدول في السياسات والاستراتيجيات، فقد مارست تجارب مختلفة وطبقت مناهج متعددة أملا في الوصول إلى ما هو كفيل بتحقيق طموحاتها الاقتصادية واللحاق بركب الدول المتقدمة، مع أن بعضها لم يشهد التطور في الماضي وليس لديه تجربة فيه وبعضها الآخر لايزال في المراحل الأولى للتطور. من هنا ظهر للاقتصاديين وغيرهم اقتصاد التنمية كأحد الفروع الاقتصادية المعاصرة، حيث كانت انطلاقته إثر الحرب العالمية الثانية خصبة جدا على مستويات المفاهيم والنماذج التي غذّت المناقشات والمجادلات الفكرية العلمية-على الرغم من تناثر بعض الأفكار التاريخية من هنا وهناك والتي كانت لها علاقة بمفهوم التنمية والنمو الاقتصادي- ولازال ذو أهمية بالغة خاصة مع الوضع المتردي لأكثر بلدان العالم الثالث المتخبطة في الأزمات المتلاحقة بسبب استمرار تبعيتها الاقتصادية لدول العالم المتقدم. لقد كان مما دفع المؤلف إلى تأليف هذا الكتاب هو أمله في الحديث عن ماضي التنمية الاقتصادية وحاضرها ثم توقع مستقبلها في ظل التحولات العالمية الجد متسارعة اليوم بسبب الثورات الاتصالية، المعلوماتية وغيرها، كما أن المؤلف كان يطمح لتحقيق أهداف أخرى يمكن تلخيصها في النقاط التالية: 1) التذكير بمختلف نظريات، نماذج واستراتجيات التنمية القديمة والجديدة في شكل مختصر ومبسط، لتمكين القارئ –وبخاصة طالب الاقتصاد- من معرفة كيف بدأت و أين وصلت هذه المفاهيم؛ 2) التحدث عن النظريات الاقتصادية التنموية من وجهات النظر المختلفة، الرأسمالية الليبرالية، الاشتراكية الماركسية وحتى الإسلامية ولعل القارئ يستفسر عن جدوى الحديث عن النظريات الاشتراكية الماركسية-بسبب انهيار الدول التي طبقت أفكارها-أو الإسلامية- بسبب استحالة تطبيقها في الوقت الراهن على الأقل– لكن المؤلف يعتبر ذلك جزءاً من الفكر الاقتصادي التنموي الذي لا يمكن إغفاله بغض النظر عن إمكانية تطبيقها من عدمه؛ 3) إظهار طرق وأساليب قياس التنمية والنمو الاقتصادي بشكل حسابي بعيد عن الوصف، خاصة مع سهولة الحصول على المعلومات والبيانات الإحصائية ووسائل معالجتها؛ 4) الحديث عن جملة من المشكلات والسياسات التي لها علاقة بالتنمية وواقعها في الدول النامية بالخصوص، في صيغتها المحلية أو الدولية؛ 5) التطرق لمشكلة مصادر تمويل التنمية وطرق التخطيط مع التركيز على مفهوم التخطيط الاستراتيجي الذي تحتاجه المنظمات؛ 6) التطرق لعلاقة العمل بالموضوعات التي تثار في السنوات الأخيرة كالعولمة –التنمية المستدامة- التكتلات الاقتصادية- الحكم الراشد...الخ. في هذا الكتاب الذي يعد تتمة لما سبقه من كتب عن التنمية والنمو الاقتصادي، حاول المؤلف أن يجمع مختلف الجوانب التي تخص التنمية الاقتصادية، نظرا لان الكتب اهتم بعضها بالحديث عن ",النماذج", وأهمل ",النظريات", أو ",الاستراتيجيات", والعكس وتطرق بعضها بالحديث عن نظريات التنمية ونماذج النمو التقليدية و أهمل الحديثة واكتفى البعض بالحديث عن تمويل التنمية ولم يمعن النظر في كيفية التخطيط لها وطرق ذلك ...الخ. وقد اختار المؤلف المنهج المتكامل في البحوث التطبيقية في طرح هذا الكتاب، ذلك أن هذا المنهج يستند إلى حقيقة وجود ارتباط وتلازم بين الإطار النظري للبحث وبين الواقع التطبيقي له، ويتيح لنا تحقيق العمق باستخدام المنهج التاريخي والشمول باستخدام المنهج الوصفي التحليلي والتوازن باستخدام أدوات التحليل الإحصائي. وحتى يتمكن المؤلف من الإحاطة بجوانب الموضوع فقد قسم الكتاب إلى خمسة فصول: يستهل الفصل الأول منه بتعريف مختلف المصطلحات التي ينبني عليها اقتصاد التنمية ويفرق بينها، ثم يتتبع وجهات نظر مختلف المدارس الاقتصادية التاريخية انطلاقا من التجاريين وحتى الكينزيين. يتناول المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب نظريات مختلفة للتنمية ونماذج النمو المعاصرة بعد الحرب العالمية الثانية مع أهم استراتيجيات التنمية الاقتصادية ويبين كيفية تغيرها حسب الظروف الزمنية والمكانية ليستخلص منها أهم القواسم المشتركة- إن وجدت- والاختلافات التي بينها. ويهتم الفصل الثالث بإبراز خيارات التنمية الغربية المطروحة أمام الدول النامية بما فيها المشروع التنموي الإسلامي، كما يتطرق إلى كيفية تحول مفهوم التنمية في الفكر الاقتصادي المعاصر بسبب سقوط الثنائية وبقاء القطب الواحد، إضافة إلى دور المؤسسات الدولية في ذلك. يتناول في الفصل الرابع من الكتاب أهم المشكلات والسياسات التي لها علاقة بالتنمية إن على المستوى المحلي (كالغذاء، التعليم والصحة) واستراتيجياتها المعتمدة أو على المستوى الدولي (كالطاقة والتجارة الخارجية) معرجا على أهم المقاييس أو المعايير التي تقاس بها التنمية وكذا النمو. ويختم المؤلف هذا الكتاب بفصل خامس يتحدث فيه عن أهم المصادر الداخلية والخارجية لتمويل التنمية ومعوقات ذلك وإجراءات إنعاشها، ومن ثم كيفية التخطيط للتنمية إن على المستوى الكلي أو على المستوى الجزئي، إضافة إلى مستقبل التخطيط في صراعه مع أنظمة السوق في ظل التحولات الاقتصادية العالمية الراهنة. إن المؤلف في هذا الكتاب وإن قام بتبيان مختلف وجهات النظر المتعلقة بالتنمية وكذا تتبع صيرورتها قديما وحديثا لا يزعم أنه قام بتغطية شاملة لجميع جوانب الموضوع وإنما قام بقراءته من زوايا أخرى فيها العرض والشرح والتحليل، كما حاول أن يبين وجهات النظر بين الشرق والغرب. وأسأل الله العلي القدير أن ينتفع القارئ الكريم ولو بجزء قليل من هذا البحر الواسع والله ولي التوفيق.