وصف الكتاب
ترتبط السياسة بالسيكولوجيا (= عِلم النّفْس) عبر علاقة عضوية تعود إلى البدايات الأولى للفكر الإنساني. أيْ إلى ما قَبْلَ تَشكّل المفاهيم النظرية لأيّ منهما. وبالعودة إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس (Aristotle) (384– 322 ق.م)، فإننا نجده يُصنّف السيوكولوجيا والسياسة والاقتصاد في إطار العلوم التطبيقية، مُعَرّفاً الأخلاق على أنها: ",علم دراسة السلوك الشخصي عند الإنسان",، والاقتصاد على أنه: ",علم تدبير معيشة العائلة",، والسياسة على أنها: ",علم تدبير المدينة (= الدولة)",. لكنّ الطابع العضوي لهذه العلاقة يعود عَمَلياً إلى حاجة السياسة الماسة لأيّة وسيلة تسهّل الاتصال، وهذا الاتصال يحتاج بدوره إلى أيّة معلومة تساهم في إكمال فعاليته وتدعيمها.
وتعود البدايات الحديثة لعلم السياسة إلى مطلع القرن الماضي، وقد اقترنَتْ ببدايات علم النفس السياسي. فقد نُشرتْ منذ منتصف القرن الماضي، العديد من البحوث النفسية – السياسية. التي بدأها سيجموند فرويد (S. Freud) (1856- 1939م)، الذي بَحثَ تاريخ السياسة، منطلقاً من مرحلة ما قبل الحضارة الإنسانية، لينتقل بعدها إلى دراسة السياسة في مراحل انتشار الأسطورة البدائية (Myth)، وتحديداً مناقشة الأساطير اليهودية ومسألة التوحيد في كتابه: ",موسى والتوحيد", ليدخل بعدها مباشرة إلى السياسة الحديثة في مقالته: ",أفكار لأزمنة الحرب والموت",. ثم جاءت دراسات يونغ (Young) الشهيرة حول الأساطير واللاوعي الجماعي وعلاقتهما باللاوعي الفردي. وبعدها أتت محاولة أتباع فرويد والمنشقّين عنه للتوفيق بين التحليل النفسي والسياسة والنظرية الماركسية خصوصاً. كما تجدر الإشارة إلى الكتاب الذي نشره غراهام والاس في العام 1921م تحت عنوان ",الطبيعة الإنسانية في ميدان السياسة",. لكنّ البحث العلمي الحقيقي في ميدان السيكولوجيا السياسة، بدأ في الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية، حين تدعّمت هذه البحوث بهجرة مكثفة لعلماء النفس الآوروبّيين الهاربين من الحرب في بلدانهم إلى أميركا. فبدأت هذه البحوث من منطلقات إثنيّة (= عِرقية) وسُخّرتْ هذه البحوث لدراسة اللاوعي الجماعي والشخصيات الأممية لأصدقاء الولايات المتحدة وأعدائها، في محاولة لتسخير سيكولوجية الرأي العام في الاتجاه السياسي المناسب.
وبعبارة موجَزة، يمكننا القول: إنَّ وِلادَة علم السياسة، وعلم النفس السياسي، كانت وِلادةً تَوأميّة منذ النصف الأول من القرن المُنصرِمْ. ثمّ بدأ التطور يَعتري هذا العلم الجديد (علم النفس السياسي)، وأخذ التخصص في جزئيات كثيرة منه يُبلور علماً جديداً، وهكذا انشطرَ هذا العلم انشطاراً سريعاً ومذهلاً في النصف الثاني من القرن العشرين، فظهرتْ علوم متعددة منبثقة عن هذا العِلْم العَريض، كان من بينها: علم نفس الاتصال، أو ما يُعبّر عنه أحياناً بـ ",علم نَفْس الإعلام", كما في هذا الكتاب، وظهرت علوم أخرى أيضاً كـ ",علم النفس القِيادي", وهو العلم الذي يبحث في سيكولوجية الزعماء والقادة الكبار، وكذلك ",سيكولوجية التظاهُر",، و",سيكولوجية العُدوان",، و",علم نفس الإنسان المقهور",، و",سيكولوجية الحرب",، و",سيكولوجية التفاوض",... وغيرها من الميادين العلمية الأخرى المنبثقة بصفة مباشرة أو غير مباشرة عن علم النفس السياسي.
وأيّاً يكن الأمر، فقد وَقَعتْ هذه العلوم النفسية في أسْرِ الفِكر السياسي، خاصّة أنّ السياسة الأمريكية هي التي صَبَغتْ هذه العلوم بصِبْغَتها ذات الطابع البرغماتي، فلو راجعنا التصنيفات المقترَحة للأعراض النفسية وللأمراض والاضطرابات النفسية المبثوثة في هذه العلوم، لوجدنا أنها متأثرة إلى درجة التوحّد بالفكر السياسي السائد في الولايات المتحدة. فالتصنيف الأمريكي يَعتمد المبادئ البراغماتية والظواهرية، من خلال تَحديده للتشخيص من خلال العَوارِض، حتى اعتبر بعض المؤلفين بأنَّ التصنيف الأمريكي هو حصان طراودة الذي يحاول الفِكر الأمريكي النفاذ من خلاله إلى عقول الأطباء والمُرشدين النفسيين، حول العالم. فإذا ما أضفنا الوقائع المتوافرة حول إساءات استخدام العلوم النفسية، فإنا نجد أنَّ الفنّ المسمّى بالسياسة قد امتلك القدرة على السيطرة، وعلى تسخير هذه العلوم لمصلحته، مع بقاء قَواعِدِه ومناهجه سرية وعصية على الأرصان في مناهج أكاديمية خاضعة للمنطق العلمي وقابِلة للتجريب.