وصف الكتاب
",رسائل الجاحظ", مؤلًّفٌ في طياته ما خطته عبقرية الجاحظ الكلامية والسياسية والأدبية ضمن رسائل، كتبها الجاحظ في مناسبات معينة، ووجهها إلى أشخاص معينين. نتحدث عن كل مجموعة بصورة تعطي القارئ فكرة عن محتوى الرسائل ومنهجية الكاتب وأسلوبه في صياغته. فمن حيث مجموعة رسائل الجاحظ الكلامية هي إحدى عشرة رسالة من تراث الجاحظ الضخم الذي عرف منه نحو مايتي مؤلف، وصل منها ثلاثون كتاباً وحفظت أجزاء من خمسين، وضاع سائره.
وتمّ اختيار هذه الرسائل لأسباب مختلفة: منها اصطباغها بصبغة كلامية لافتة، مع العلم أن الجاحظ خلّف رسائل كلامية أخرى ضاعت، وكان يعني بعلم الكلام جميع الأبحاث التي تجمع الدين والفلسفة، والمتكلم بنظرة هو الذي يحسن من كلام الدين على قدر ما يحسن من كلام الفلاسفة، وسوف يلمس القارئ من خلال هذه الرسائل جمع الجاحظ هذا بين الدين والفلسفة.
والرسائل هي التالية: 1-صناعة الكلام، 2-القيان، 3-النساء، 4-الإمامة والجوابات في المعرفة، 5-حجج النبوة، 6-خلق القرآن، 7-استحقاق الإمامة، 8-رسالة في نفي التشبيه، 9-الرد على المشبهة، 10-بنو أمية والنابتة، 11-الرد على النصارى. وقد تم في الجزء المخصص لهذه الرسائل ",الكلامية", شرح العبارات والأفكار شرحاً فلسفياً لا لغوياً. والسبب هو أن هذه النصوص الجاحظية ليست بحاجة إلى شرح لغوي؛ لأن لغتها سهلة وعبارتها مشرقة واضحة، ويندر أن ترد فيها كلمة صعبة، وإذا تمّ العثور على واحدة منها أمكن استقراء المعجم. أما التعابير الدقيقة والمصطلحات الكلامية والفلسفية فهي بحاجة حتماً إلى توضيح وشرح. وهذا ما تمّ فعله في الكتاب المخصص لها.
والرسائل الكلامية هذه بمجملها، تدور حول ستة موضوعات هي: علم الكلام. المرأة والجمال، المعرفة، النبوة، الإمامة، موقف الجاحظ من بعض الفرق والنصارى واليهود. أما مجموعة الرسائل السياسية، فهي ما انتهت إلينا من مؤلفات الجاحظ السياسية المتعددة، وقد ضاعت سائر الكتب التي عالجت موضوع السياسة ولا يعرف سوى عناوينها الواردة في لائحة الكتب التي تم إلحاقه في الكتاب الخاص برسائل الجاحظ السياسية في هذا المؤلًّف. وتدور الرسائل حول ست مسائل أساسية. المسألة الأولى هي مفهوم السياسة وأصولها وطريقة إقامة الرئيس. لقد فهم الجاحظ السياسة بمعنى التدبير، تدبير شؤون الناس ومعاشهم. وكثيراً ما يستعمل لفظة السياسة مقترنة بلفظة التدبير. وترجع السياسة إلى أصلين هما الترغيب والترهيب. وفي ذلك تتفق السياسة الدنيوية مع السياسة الدينية. وقد أوضح الجاحظ مفهوم السياسة وأصولها في رسالة المعاش والمعاد التي وجهها إلى أحد أولي الأمر، وهو قاضي القضاة محمد بن أحمد بن أبي داود الذي يشرف على الولاة والقضاة في الدولة العباسية وبصدد إقامة الرئيس، رئيس الدولة، جاء الجاحظ بنظرية جديدة إن العامة لا تصلح لاختيار الإمام لجهلها وغلبة الأهواء عليها. وهذه المهمة ملقاة على عاتق الخاصة، التي بوسعها معرفة من يستحق الإمامة دون سواه.
المسألة الثانية هي الوطنية. وهي تعني تعلق الإنسان بالأرض التي يعيش عليها، بحيث يفضلها على غيرها من البلدان، ويتعصب لها ويدافع عنها ضد الأعداء أو المغتصبين. عالج أبو عثمان هذه المسألة في رسالة الأوطان والبلدان، وعاد إلى الحديث عنها في رسالة الترك زعامة جند الخلافة. ويمكن اعتبار الجاحظ رائداً في هذه القضية التي اكتسبت أهمية عظمى في العصر الحديث. والمسألة الثالثة هي الصراع الحزبي الذي شغل ثلاث رسائل للجاحظ هي: العثمانية، والحكمين، والعباسية. والمسألة الرابعة هي الصراع القبلي المتمثل بالمنافسة القديمة التي ترقى إلى العصر الجاهلي بين بطنين من بطون قريش على الحكم هما عبد شمس وهاشم. وقد عرض الجاحظ صورة هذا الصراع في رسالة فضل هاشم على عبد شمس. والمسألة الخامسة هي الشعوبية. ويبدو أنها استفحلت في عصر الجاحظ فحاول أن يكبح جماحها فخصص لها رسالة مناقب الترك، ورسالة فخر السودان على البيضان. والمسألة السادسة والأخيرة تعتبر ملحقة بالسياسة لأنها تدور حول عمل الموظفين الذين يساعدون الخليفة في إدارة الدولة وهم الحجاب والكتّاب.
وبالنسبة لهذه الرسائل فقد تمّ استهلال كلٍّ منها بمقدمة لها تحللها وتلقي الضوء على فكر الجاحظ المتشعب المرامي والأنحاء، كما تم وضع عناوين لفقرها تسهل إلقاء نظرة شاملة عليها وتبرز مطالبها كما تمّ شرح أفكار الجاحظ والنقليّن عليها والربط فيما بينها، والغاية إماطة اللثام عن الجاحظ المتفلسف والمتكلم المتبحر، وهي الناحية التي أهملها الباحثون المحدثون.
أما رسائل الجاحظ الأدبية فقد بلغ تعدادها في هذه المجموعة حوالي إحدى وعشرين رسالة. وقد أطلق عليها اسم الرسائل الأدبية لا بالمعنى المفهوم اليوم من الأدب؛ أي ذلك الفن الجميل الذي يغلب عليه الخيال والعاطفة، ولكن بالمعنى الذي فهمه الجاحظ نفسه في قوله ",والأدب أما خلق وأما رواية، وقد أطلقوا له اسم المؤدب على العموم", (المعلمين). فالأدب يعني الأخلاق كما يعني رواية العلم أو نقله بين الأجيال بواسطة المؤدب أو المعلم، والكتاب.
وتدور رسائل الجاحظ الأدبية حول خمسة موضوعات أساسية؛ فموضوع الأخلاق المحض يغلب على ثلاث رسائل هي ",كتمان السر وحفظ اللسان", و",الحاسد والمحسود",، و",النبل والتنبل وذم الكبر",. ونلقى الجاحظ فيها يحلل هذه الخصال الخلقية تحليلاً نفسياً يمتاز بالدقة والعمق، وينطلق من مبدأ خلقي واحد يقول أن الأخلاق طباع في الناس. فهي تولد معهم ويحملوها بالفطرة، ولا تكتسب اكتساباً بالتربية والتعليم. وفي هذا يخالف الجاحظ أرسطو والفلاسفة المشائين.
والموضوع الثاني الذي يحتل حيّزاً كبيراً في هذه المجموعة هو الاجتماع وهو يغلب على رسائل ست هي: ",مفاخر الجواري والغلمان",، و",تفضيل البطن على الظهر",، و",المعلمين",، و",طبقات المغنين", و",الوكلاء",، و",مدح التجار وذم عمل السلطان",. والموضوع الثالث الذي يحظى باهتمام الجاحظ هو الفقه. ويعتبر الجاحظ نفسه رجل علم وفقه. وقد طرق هذا الموضوع في ثلاث رسائل هي ",الفتيا", و",مدح النبيذ وصفة أهله",، و",الشارب والمشروب",.
والموضوع الرابع يستقطب ثلاث رسائل هي ",البلاغة والإيجاز", و",تفضيل النطق على الصمت",، و",صناعة القواد",، وموضوعها الغالب هو فضل الأدب، وأهميته في حياة المرء ومفهوم البلاغة وعلاقتها بالإيجاز أما الموضوع الخامس والأخير فهو الشؤون الشخصية التي تغلب على ست رسائل هي: ",الجد والهزل", و",فضل ما بين العداوة والحسد",، و",رسالة إلى أبي الفرج بين نجاح الكاتب", و",المودة والخلطة",، و",استنجاز الموعد", و",التربيع والتدوير",. وقد تمّ استهلال كل رسالة من هذه الرسائل ككل مقدمة تحليلية لكل منها تبين محتوياتها وقيمتها، وثم تبويب الرسائل وتصنيفها على أساس موضوعاتها، ووضع عناوين فرعية لفقرها تسهل تناولها وتوضح مطالبها، كما تمّ أيضاً شرح الرسائل وإيضاح الآراء والأفكار المنطوية عليها.