الدين الإسلامي والرسالة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت تنطوي على الكثير من الغيبيات إلا أن ذلك لا يمنع بحسب نصوص الشريعة من ضرورة سعي الكائن البشري نحو الوصول إلى حقائقها ومعارفها، بل إنه من المؤكد والثابت أن الله تعالى أراد من عباده ومخلوقاته أن لا يجمدوا أمام حقائق عالم الحس والشهادة وأراد لهم الترقي إلى ما هو وراء ذلك.

ومن هنا تجد الروايات التي استفاضت في الحديث عن تلك العوالم الغيبية والماورائية المبينة لحقائقها ومعارفها، فالملائكة على سبيل المثال من المخلوقات التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، لكن الروايات بينت بالتفصيل حقيقة أمرها وسرها وكيفية خلقها وطريقة عملها وعددها وعبادتها و...

وهكذا يمكن القول في كل ما خلقه الله تعالى مما هو ليس تحت متناول يد الإنسان، وهو ما يشكل دليلاً ساطعاً وواضحاً على أنه سبحانه وتعالى يريد لعباده اكتشاف كل ما هو مجهول عنهم، وما هو ليس تحت مرمى بصرهم ليكون الطريق إليه هو العقل والبصيرة. ومن ضمن تلك الحقائق الماورائية التي تحدث عنها القرآن الكريم ما يرتبط بعرش الله وكرسيه الذي وسع السماوات والأرض، فهي وإن كانت من قضايا الغيب لكنك تجد أن القرآن الكريم ورد فيه في كثير من آياته المباركة ما يكشف الغموض عنها، وكذلك الروايات التي تعد بالمئات حين روت لنا تفاصيل متعددة وكثيرة عن أسرارها وحقائقها، ومن هنا نجد هذا الكم الهائل من البحوث القرآنية والفلسفية والعقلية لثلة كبيرة من جهابذة العلم والمعرفة ممن طرقوا باب هذه البحوث ليدلوا بدلوهم ورأيهم فيها، وبالإضافة إلى ذلك ترى التباين الكبير فيما حصل من معركة الآراء في هذه البحوث.

فتفسير معنى العرش والكرسي يختلف من مذهب فكري إلى آخر، فضلاً عن اختلاف الراي بين أتباع المذهب الواحد حيث اتجه كل مفكر وعالك إلى خلاف ما اتجه إليه الآخر، وهذا هو الحال في تفسير كثير من المسائل المتفرعة عن هذه المسالة كالاختلاف في تفسير وبيان معنى الاستواء على العرش، وفي معنى كون عرشه تعالى على الماء، وفي تفسير جلوسه تعالى على العرش... إلى غير ذلك من البحوث الفكرية العميقة التي تناولها المفسرون في أبحاثهم القرآنية والروائية والفلسفية...

وعلى هذا الأساس كان هذا البحث الذي سعى لاستكمال ما عالج به عباقرة التفسير والفلسفة الإسلاميين، وما بذلوه من جهد في توضيح هذه المفردات، وكشف الغموض والملابسات عنها، فكان المنحى العام هو توفير الكم المستطاع من آرائهم وطروحاتهم في هذا المجال ومن ثم محاولة المحاكمة بين هذه الآراء وبيان القول الفصل على ضوء القرآن والروايات.

فكانت أولى الأمور التي تطرق لها هذا البحث الإطلالة العامة على معنى العرش والكرسي على مستوى اللغة والاصطلاح.

ومن بعد ذلك بيان المناهج والاتجاهات والمسالك التفسيرية بحسب ما ورد في كلمات الأعلام وفقاً للمنهج المتبع عند أتباع المدارس التفسيرية، وعلى ضوء ذلك كان للمؤلف تأملات في كلماتهم ومناقشة لآرائهم لنخلص إلى نتيجة ورؤية موحدة حول الموضوع.

ولأن لهذه المسألة فروعها وتشعباتها الكثيرة كان لا بد من الإطلالة عليها وعدم تجاوزها لما لها من ارتباط وثيق بالبحث وذلك من قبيل ما ورد عن حجم العرش والكرسي، والحملة لهما، والملائكة ذات الصلة بهذا الشأن.

وبما أن الفرقة المجسمة تستقي فكرها من بعض القضايا والتي منها قضية العرش والكرسي كانت لنا مناقشة مع الشبهات التي وقع بها هؤلاء لكونها تمس وتخرق قواعد التوحيد في العقيدة الإسلامية.

ولم تسلم مسألة العرش رغم ما ورد فيها من أحاديث وروايات من إنكار البعض لها كما فعل أصحاب الفرقة الجهمية، فكان لا بد من الرد على ما قالوه. وهكذا وصولاً إلى الكثير من المتفرعات واللوازم المترتبة على ذلك من قبيل مسالة العلم الإلهي.. والاستواء على العرش ومعناهوكيفيته.. ومعنى كون العرش على الماء.. وغيرها من البحوث التي تعرضنا لها في هذا البحث.