الرئيسية

/

/

/ القلق والتنوير وحكمة انعدام الأمن

المصدر : azema

الملخص

طوال تاريخ الحضارة، تَمكّن الأفراد من الوصول والاستفادة من الأساطير التي نَقلت وعَبّرت عن رأيٍ مفاده أن الحياة كانت ذات معنى وكانت حياة آمنة – وأن البشر لديهم مكانة مركزية في الكون، أهمية في خضمّ هذا المخطط الكبير لكل شيء.

أوراق كطيور
أوراق كطيور
مع صعود وبروز العلم تم اختراق هذه الخرافات واضمحلالها. يجد عدد أقل من الأفراد أنه من الممكن أن يؤمنوا بالخرافات، وبالتالي تُرك عدد متزايد منهم وحدهم في الفراغ والضياع، يواجهون الهاوية بأنفسهم – مُجبرين على معرفة معنى الحياة واستنتاج مكانتهم في الكون دون أي دعم خارجي:

ثم، هناك شعور بأننا نعيش في زمن من انعدام الأمن بشكل غير عادي. في المائة عام الماضية، انهارت العديد من التقاليد الراسخة – تقاليد الأسرة والحياة الاجتماعية، والحكم، والنظام الاقتصادي، والمعتقد الديني. مع مرور السنين، يبدو أن هناك عدداً أقل من الثوابت المؤكدة التي يمكن أن نؤمن بها، وعدد أقل من الأشياء التي يمكننا اعتبارها صحيحة وحتى صحيحة تماماً، وثابتة طوال الوقت. بالنسبة للبعض، يعتبر هذا مرحباً به للغاية للهروب من قيود العقيدة الأخلاقية والاجتماعية والروحية. بالنسبة للآخرين، يعد هذا خرقاً خطيراً ومرعباً للعقل والعقلانية، ويميل إلى اغراق حياة الإنسان في فوضى يائسة. بالنسبة لمعظم الناس، ربما يكون الإحساس الفوري بالحرية من القيود قد أعطى فرحة قصيرة، يتبعها قلق أعمق. لأنه إذا كان كل شيء نسبياً، إذا كانت الحياة هي سيل بدون شكل أو هدف حيث لا يُمكن أن يَمنع فيه التغيير بحد ذاته من حدوث الفيضان، فإنه يبدو شيئاً لا يوجد فيه “مستقبل” وبالتالي لا أمل. “

(حكمة عدم الأمان : رسالة لعصر القلق، آلان واتس)
احتفل الكثيرون بتدمير الأساطير الدينية والثقافية، معتقدين أننا قد تخلصنا الآن من “أوهام صبيانية”، وبالتالي أصبحنا أحرار في مواجهة الواقع دون أي غشاوة على عيوننا. لقد فهم مفكرون آخرون، مثل واتس، أن الخرافات تخدم دوراً حيوياً في الحفاظ على الصحة النفسية والعاطفية للأفراد.

الفنان: جان ماتيجكو - العنوان: عالم الفلك كوبرنيكوس ، محادثة مع الله.
الفنان: جان ماتيجكو – العنوان: عالم الفلك كوبرنيكوس ، محادثة مع الله.
أهمية الخرافات
نحن كبشر نحتاج إلى خرافات لإضفاء إحساس بأن الحياة لها معنى وتستحق الجهد، وأن هناك نظاماً أو خطة متماسكة لكل شيء – وأن الحياة ليست مجرد “أقصوصة يقصها أبْلَهٌ بصيحة عظيمة، وكلمات ضخمة، على حين أنها خالية من كل معنًى”. مسرحية مكبث – وليم شكسبير.

“يبدو أن الإنسان غير قادر على العيش بدون أسطورة، دون الاعتقاد بأن الروتين والكدح، والألم والخوف من هذه الحياة لهما بعض المعنى والهدف في المستقبل.”

حكمة انعدام الأمن: رسالة لعصر القلق، آلان واتس
تعمل الأساطير كترياق نفسي مخدّر لحقيقة وضعنا: فهي تخفي عدم أهميتنا على المستوى الكوني، وتعطي معنًى للمعاناة والشر الذي لا معنى له على ما يبدو، وتوفر المُثل العليا لمساعدتنا على الصعود فوق المواقف الصعبة ومواصلة السعي قدماً. إن العيش من دون خرافات هو عبء فُرض على الفرد الحديث.

مع تدمير الأساطير التقليدية، اقترح الكثيرون أن الإنسان الحديث بحاجة إلى تبني أساطير جديدة – لكن واتس لا يعتقد أن هذا ممكن. الأسطورة فعالة فقط طالما يُعتقد أنها صحيحة. عندما ينظر إليها على ما هو عليها فقط، فإنها تفقد فعاليتها.

“بمجرد أن يكون هناك شك في أن الدين هو أسطورة، فإن قوته قد انتهت. قد يكون من الضروري للرجل أن يكون لديه أسطورة، لكنه لا يستطيع أن يصفِها بوعي لأنه يمكنه أن يختلط عليه الأمر ويظنّها حبة للصداع. لا يمكن للأسطورة أن “تنجح” إلا عندما يُعتقد أنها حقيقة، ولا يمكن للإنسان أن “يضحك” على نفسه لفترة طويلة وعن عمد. “

حكمة انعدام الأمن: رسالة لعصر القلق، آلان واتس
الفنان: إيفان كرامسكوي - العنوان: المسيح في البرية
الفنان: إيفان كرامسكوي – العنوان: المسيح في البرية
الإلهاء باعتباره آلية مواجهة وتأقلم
لعب الافتقار إلى الأساطير الكافية المتاحة للفرد الحديث دوراً في ظهور مشكلات نفسية مثل الاكتئاب والقلق. يمكن أن تكون مواجهة المجهول الغامض الذي هو أن الكون بأكمله يعمل بدون أي مساعدات خارجية هو أمر مرعب. ولأنه غير قادر على فهم الكون ومكانته فيه، يفر الكثيرون اليوم من القلق الوجودي من خلال الإلهاء.

من السهل أن تملأ عقل المرء بترفيه أخرق غبي، تشغلهُ مثلاً بشأن ما يفعله أو يرتديه أحدث المشاهير، على أن يُترَكَ لوحده ليواجه أسئلة وجودية مقلقة مثل: لماذا أنا هنا؟ من أنا؟ وهنا يُوجّه واتس كلامه للشخص الذي يَتوق إلى مجرد الإلهاء، فيكتب:

“ينقل عيناه بدون راحة من شاشة التلفاز، إلى الجرائد، وثم المجلات، مما يبقيه في حالة من النشوة من خلال سلسلة من لمحات مثيرة للإعجاب من السيارات اللامعة، والأجسام الأنثوية المثيرة، والأشياء السطحية الحسية الأخرى، تتخللها مُرمّماتٌ للأحاسيس – علاجات للصدمات – مثل لقطات ” التجارب الإنسانية المثيرة للاهتمام ” للمجرمين، والجثث المشوّهة، والطائرات المحطمة، والمعارك الطاحنة للفوز بالجوائز، ومشاهد المباني المحترقة. “

حكمة انعدام الأمن: رسالة لعصر القلق، آلان واتس
كنيسة فريدريك ستيوارت (1842-1924) - العنوان: سيرس
كنيسة فريدريك ستيوارت (1842-1924) – العنوان: سيرس
هل الوعي “خطأ”؟
بالنسبة لأولئك منا الذين يترفعون بنظرهم وبصيرتهم عن شاشة التلفزيون ومنشورات وسائل “التواصل” الاجتماعية اللانهائية، ويفكرون فعلياً في وجودنا وفي هذا الكون المذهل من حولنا، قد يبدو من المغري أن نستنتج أن البشر هم نتاج “خطأ” تطوري. ولعل وعينا قادر على استيعاب الكثير من المعرفة والبصيرة، دون الحاجة إلى التهدئة التي تأتي من الأوهام والأساطير المخدّرة، نحن أضعف من أن نواجه المجهول:

“من المفهوم أنه ينبغي لنا في بعض الأحيان أن نسأل ما إذا كانت الحياة لم تنجرف بعيداً في هذا الاتجاه، وما إذا كانت” اللعبة تستحق كل هذا العناء “، وما إذا كان قد لا يكون من الأفضل تحويل مسار التطور في الاتجاه الآخر الوحيد الممكن- إلى الوراء، إلى السلام النسبي للحيوان، الخضار، والمعادن.

“حكمة انعدام الأمن: رسالة لعصر القلق، آلان واتس
اعتناق “دع الأمر يمضي” بوصفه تنويراً
يضع واتس هذه النقطة بعين الاعتبار، لكنه لا يَقْبَلها. يقترح حلاً آخر للمشكلة – إعادة توجيه شاملة ومتكاملة في طريقة عيشنا عبر “التخلي”. يمكننا التخلي عن حاجتنا إلى الشعور بالأمان، ورغبتنا في أن تكون الحياة مجدية وذات مغزى. يمكننا “التخلي” عن كل معتقداتنا التي تبقينا مقيدين برؤية عالمية محددة. يمكننا “التخلي” عن تمسكنا بالحياة والموت. إن القيام بذلك ليس سهلاً ويتطلب تحولاً في الوعي والسلوك، لكن بوجهة نظر واتس، وقتنا هذا هو الوقت المثالي لمثل هذا التحول.

“إن المرحلة الحالية من التاريخ والفكر الإنساني مهيأة بشكل خاص لهذا” الاستسلام – التخلي”. لقد تم تحضير عقولنا لها من خلال هذا الانهيار الشديد للمعتقدات التي سعينا فيها إلى تحقيق الأمن. من وجهة نظر متزمّتة، إن كان من الغريب، وفقاً لتقاليد دينية معينة، أن هذا الاختفاء للمعتقدات والمسلمات القديمة ليس كارثة، يصبح نعمة إذاً. إنها تجبرنا على مواجهة الواقع بعقول متفتحة.”

حكمة انعدام الأمن: رسالة لعصر القلق، آلان واتس
“التخلي” أمر صعب للغاية لأن لدينا ميل فطري لفهم الأشياء. نظراً لأننا ندرك أن كل شيء يتدفق، وان ما لدينا ونملكه الآن مآله في مرحلة ما في المستقبل أن يؤخذ منا، فإننا نحاول تحويل الأشياء التي نتعلق بها إلى حجر ثقيل نحتفظ به. نتمسك بكل قوتنا بأحبائنا وعلاقاتنا، ونبذل قصارى جهدنا للحفاظ على شبابنا مع تقدمنا في العمر، ونتمسّك بمعتقداتنا كما لو أنها نبوءة تفشي أسرار الكون، وبالتالي نظل جامدين ومتحجري التفكير.

الفنان: إيفازوفسكي ، إيفان كونستانتينوفيتش - العنوان: ليلة مقمرة على شاطئ البحر في شبه جزيرة القرم. 1852
الفنان: إيفازوفسكي ، إيفان كونستانتينوفيتش – العنوان: ليلة مقمرة على شاطئ البحر في شبه جزيرة القرم. 1852
هذه المحاولة للتمسّك بالأشياء محكومة عليها بالفشل دائماً – لأن الكون يتدفق بشكل مستمر ودون مبالاة برغباتنا. إن محاولة فهم الأشياء، وجعلها ثابتة دائمة وتتموضع في قالب، تتعارض مع طبيعة الحياة نفسها. إن الحياة تتغير دائماً وفي حالة تقلّب مستمر، وأي محاولة أو رغبة في جعلها غير ذلك هي محاولة عقيمة وحمقاء:

“في الواقع، هذا هو السلوك والموقف المشترك للإنسان لدرجة أنه يحبه ويتعلق به. بالنسبة للجزء الأكبر من النشاط البشري، تم تصميمه لجعل هذه التجارب والأفراح دائمة محببة فقط لأنها تتغير. الموسيقى فرحة بسبب إيقاعها وتدفقها وتزامنها. ومع ذلك، في اللحظة التي تتوقف فيها عن التدفق وتُطال النغمة أو اللحن لوقت بسيط، يتم تدمير الإيقاع. لأن الحياة هي أيضاً عملية متدفقة، والتغيير والموت هما أحد أجزائها الضرورية. العمل من أجل استبعادهما هو العمل ضد الحياة “.

حكمة انعدام الأمن: رسالة لعصر القلق، آلان واتس
وفقاً لواتس في هذا العصر “الحديث” الذي فَقدت فيه كل الأساطير فعاليتها، فإن الخيار الوحيد المتبقي لهؤلاء الأشخاص منا الذين يدركون برودة الكون اللامبالية التي ستدمر في الوقت المناسب كل شيء نحبه بما في ذلك حياتنا نفسها، فالخيار المتبقي هو قبول وضعنا كما هو، والقفز في تدفّق النهر العالمي، والمضي قدماً في الرحلة:

“إن الطريقة الوحيدة لفهم التغيير هو الغرق فيه، والتحرك معه، والانضمام إلى رقصة الحياة”