ملخص كتاب نار تحت الرماد
المصدر : انجز كتاب
الملخص
1- قنبلة على وشك الانفجار
كنت في (لندن ) من عشر سنوات. كانت جميع الشوارع تغطيها لافتات كبيرة من محاضرات الزعيم الروحي والصوفي الهندي (ماهیشی ). وكان الشباب يَحُجُّون إلى هذه المحاضرات، بنفس التعطش الذي يَسعون به إلى ملاعب الكرة، وقد أطالوا ذقونهم وأظفارهم، وعَلَّقوا المسابح في رقابهم. وقد سمعنا عن النبي الجديد (مون )، وما فعله في (أوروبا )، وسمعنا عن النبي الآخَر الزنجي (أليجا محمد )، الذي جَمَع حوله طائفة من أقوى الطوائف الإسلامية في (أمريكا ). وفي كل مرة نَرَي رجلًا يَظهر كداعية إلى الله؛ فيَجتمِع حوله الألوف من الشباب، يتابعونه في طاعة وبراءة الأطفال.
لقد فشلت التكنولوجيا وحدها في أنْ تَكُون هدفًا للحياة. وفشلت الحضارة المادية في أنْ تُقَدِّم المحراب البديل عن المسجد والكنيسة. وانهزمت الماركسية في امتحان التطبيق، وانكَشفت عوراتها وثغراتها، وفَقدت تلك اللمعة التي كانت تَجذب إليها الشباب. كما عَجَز رجال الدين التقليديون من قساوسة ومشايخ، عن مخاطبة الأجيال الجديدة؛ فأصبح الباب مفتوحًا عن آخره لأي زعامة متطرفة، يَقُودها أي شيطان مقنّع يُجيد الكلام، ويُتقِن هذه اللغة السحرية التي يَتكلم بها أهل الله، وعادة ما يَكُون هذا الشيطان من أصحاب القوى المغناطيسية في التأثير.
إني لأشعر أحيانًا أنَّ تحت أقدامنا فتيل قنبلة دينية زمنية، وأنَّ النار تَسْرح في الفتيل، وأنَّ القنبلة قاربت على الانفجار، وأننا في أشد الحاجة إلى إلى من يوجّه هذا الحماس الديني؛ حتى يأتي التحول بإصلاح وليس بموجات جديدة من الجرائم. والخيط دائمًا رفيع جدًا بين أهل الله وأهل الشيطان، خاصة إذا وضع أهل الشيطان رداءً دينيًا، واتخَذوا المصاحف والأناجيل شعارًا والدعوة إلى الله وإلى الفضيلة والتقوى وسيلة ملتوية، والفارق دائمًا هو تلك النبرة الحادة، وذلك الميل إلى التعصب.
2- الفراغ الديني لدى الشباب
تصلنا الأخبار كل يوم عن حوادث الشغب والتظاهر هنا وهناك. وما يَلفت النظر هو أنَّ الشعارات المرفوعة هي شعارات دينية، وأنَّ وراءها أموالًا سوفيتية أحيانًا. إنهم يَحرقون المؤسَّسَات ودور السينما، ويَقتلون الأطفال والشيوخ والنساء باسم الدِّين، وهو أَمْر مريب. فالسينما أداة علمية محايدة شأنها شأن البترول والبخار والذرة والكهرباء، وهي أدوات يُمْكن أن تُستخدَم في الخير، ويمكن أن تُستخدم في الشر، والفيلم السينمائي يمكن أن يَكُون داعيًا إلى الحق والخير والجمال، كما يمكن أن يَكون داعيًا إلى الانحلال. ولا ذنب لدور السينما ولا لرواد السينما، وإنما الذنب ذنب العقول الماكرة، والمذاهب التي تَستخدم هذه الأدوات للتخريب، والسوفييت هم أول مَن استَخدم السينما لهدم الأفكار الدينية، ونشر المادية في العالم كله.
إنَّ الفراغ الروحي هو همزة الوصل الناقصة، التي أودت بالشباب إلى هذه الانفجارات الانتحارية، وهي وراء كل تطرف إجرامي أو عدواني، وهي وراء إدمان المخدرات، وحالة الهروب والاغتراب. إنهم دائمًا شباب يَفتقِد الهدف والغاية، وقد نَجَح الزعماء الطغاة العظام، أمثال (هتلر ) و (ستالين ) و (ماركس )، ومِن قَبْلهم زعماء الفرق المتطرفة، أمثال الخوارج والقرامطة وجماعة التكفير والهجرة وجماعة القس (جونز). كل هؤلاء نجحوا مع أتباعهم؛ لأنهم قَدَّموا لهم همزة وصل مزيفة، وقدموا محرابًا بديلًا عن المسجد والكنيسة، وإيمانًا مريضًا بديلًا عن الإيمان الصحيح، وهدفًا يستخدم الطاقة الشبابية ويوجهها ويشَغْل الوقت الضائع عند المتحمسين.
في مواجهة هذه الانفجارات التي تَحْدث في كل مكان؛ لم تَعُد تُجدِي العقاقير المسكنة والعلاجات الجزئية. ولم تعد تَنْفع الجراحات المؤقتة، وفي عالَم ارتد إلى جاهلية شرسة، وعاد ملحدًا كافرًا ماديًا، علينا أن نبدأ معه من البداية، من الأبجدية الدينية، من القضية الجوهرية وليس من الشكليات والثانويات. إن استحضار معنى الله الواحد في دخيلة المواطن أصبح القضية الأولى العاجلة؛ فالعالم انحدر إلى غفلة مادية وانشغال کامل، ومعنى الله أصبح غائبًا عن الوجدان الإنساني، الغارق في التفاصيل الاستهلاكية المادية واللذات السريعة الدنيوية.
3- كيفية تطبيق الحُكم الإسلامي
الإحساس الديني لا يَترك الإنسان حتى في ذروة انحلاله، وهذا هو الحال دائمًا في هذه البلاد التي عَرَفت الله وبَنَت له المعابد منذ سبعة آلاف سنة، لا تَجِدُ فيها كافرًا واحدًا حقيقيًا. وإنما تجد فيها أهل غفلة وأهل هوى وأهل دنیا. وعصرنا الذي نعيشه اليوم هو عصر غفلة، انشغالات وهموم ومصالح وأطماع وشهوات تأخذ الناس في دواماتها، ولكن في القلب وفي الصميم، يظل هناك عطش واشتياق وحزن على شيء مفقود.
أتظن أنه يُمْكن أنْ يَقوم حُكْم إسلامي في هذه الظروف التي نعيش فيها؟ حُكْم مثل حُکْم (عمر بن الخطاب ) أو (عمر بن عبد العزيز )، وهل يُمْكن قيام مِثل هذا الحُكم دون إنها كامل لهذا العصر؟ ودون إرهاب حديدي يَستخدم العنف؛ ليستأصل عادات تَرَسَّخَت في النفوس، وأصبحت مثل الهواء، ولو جاء حاكِم إسلامي عصري، وحاول أَخْذ الأمور بالتدرج والمودة والترفق؛ هل يَرضي عنه أهل الدعوة المتشددون؟ ألا يتهمونه بالترخص والابتداع؟ ثم ألا ينشق الجميع فِرقًا تَتهم بعضها بعضًا، وتَقْتل بعضها بعضًا؟
نحن نعيش في عصر مادي جاهلي، مبتعِد بمؤسساته وتنظيماته وعاداته عن الروحانيات والمنهج الروحي. ولا يمكن أن ينقلب هذا العصر في أربع وعشرين ساعة إلى عصر إسلامي بمجرد إطلاق الشعارات، ولو أنَّ كلًا منا أَنفق الوقت في إصلاح نفسه ومجاهدة عيوبه؛ لكَسبنا أعمارنا، ولصَنعنا شيئًا أفضل من النداء على ثمرة قبل أوانها.
يقول الله لـ (عيسى ) في حديث قدسي: ",یا عیسی عِظ نفسك؛ فإن اتعظتَ؛ فعِظ الآخَرين وإلا فاستح مني ",؛ فالله يعلمنا بهذا الأسلوب التشريعي التدريجي أنَّ إصلاح الفساد المتمكِن المترسِّخ، لا يمكن أنْ يتم إلا بالمودة والتدرج، ولا يمكن أنْ يأتي إلا على مراحل. وأنا أرى أن المرحلة الممْكِنة الآن هي: أصْلِح نفسك ثم أصْلِح أهلك، ثم كن لسان دعوة وحق في مجتمعك.
4- الانتحار بين أقصى اليمين وأقصى اليسار
الممثِّل الأمريكي العالمي (جيج يونج ) قَتَل زوجته، ثم قَتَل نفسه رميًا بالرصاص. والممثل الفرنسي (شارل بوایيه ) مات منتحرًا، وكذلك ماتت زوجته منتحرة، وكذلك مات ابنه منتحرًا. ونجمة الإغراء الشهيرة (مارلين مونرو ) قَتلت نفسها بالحبوب المنوِّمة، و(سوزان هيوارد ) دَمَّرت حياتها بالخمر، و (الان دیلون ) دَمَّر حياته بالمخدرات. و (أنا جاردنر ) لا تفيق من السُكر، و (مارلين ديترتش ) أصابها جنون السرقة، و (جريتا جاربو ) أصابها جنون الاختفاء.
إنَّ النجوم لا يُحسَدون على ما هم فيه من ثراء وذيوع وانتشار؛ فإنها صنعة مكلِّفة، تُكلِّفهم حياتهم ودنياهم وآخرتهم، ثم لا يبقى منهم شيء. وكما يأتي الانتحار نتيجة لحياة مادية متطرفة؛ كذلك يمكن أنْ يأتي نتيجة لتدين متطرف. إنَّ ما أَمر به المسيح من قَتْل النفس - ومراد المسيح كان بالطبع هو قَتْل الشهوات - يمكن أن يَصِل به المتطرف إلى رهبانية خاوية قاسية أو إلى قَتْل؛ فيَقوم بالانتحار، كما فَعَل الأب (جيم جونز ) وطائفته في موعظة الانتحار الجماعی، مردِّدًا آية المسيح: ",ومَن قَتَل نفسه مِن أَجْلي وَجَدها ",.
أهْل التطرف مِن اليمين واليسار، ومِن أَهْل الدِّين والدنيا، وهُم في الحقيقة أصحاب مبدأ واحد، وهُم واقفون على أرض واحدة مهما تصوروا أنهم مختلِفون. تلك الأرض هي أرض الرفض الكامل والكفر بكل شيء، ويمكن أن يَتمثل هذا الرفض الكامل في قَتْل الآخرين أو قتل النفس، وقارب النجاة في من هذه الشرور هو: الاعتدال، والفَهم الحقيقي للفضيلة بأنها الوسط العدل بين المتناقضات؛ فهي لا يمكن أن تَكُون إفراطًا، كما أنها لا يمكن أنْ تَكون تفريطًا، وهي لا يمكن أن تكون تشددًا، كما أنها لا يمكن أن تكون إسرافًا، وإنما هي دائمًا هي الوسط العدل الذي هو الشجاعة والكرم، وذلك هو الوسط بين نجمة الإغراء (مارلين مونرو )، وبين الأب القسيس (جيم جونز )، بين انتحار أهل اليمين وانتحار أهل اليسار.
5- سحر الكلمات
إننا نَسْخر في العادة من بضاعة الكلام ومن أحزاب الكلام، وهل كان (هتلر ) إلا كلامًا؟ وهل دَفَع (ألمانيا ) إلى جنون العظمة إلا كلام هذا الرجل؟ ومن ورائه (جوبلز ) وأبواقه، ثم شباب مجنون يَسمع؛ فيَشتعل حماسه، ويَهُبّ على (أوروبا ) كالإعصار المدمِّر؛ فيَصنع الموت والخراب للملايين.
ألم نَكن أسرى الكلام طيلة عشرين سنة مِن حُكْم (عبد الناصر )؟ نحارِب في (اليمن ) ونحارِب في (الكونغو )، ونهتف للصداقة الروسية المصرية ونشتم (فيصل ) والرجعية الإمبريالية الأمريكية؟ وهل قَتَل (يوسف السباعي ) إلا رجل كان عقله محشوًا بالكلام؟ ألا يَستدرج كلام الحب عظام الرجال إلى مصارعهم؟ ألا يُلقي بشباب إلى اليأس والانتحار؟ فالكلام له أشد التأثير على النفس والعالَم معًا، وقد حَدَث هذا في الماضي البعيد، حين خَرَجَت من قبيلة (قريش ) طائفة، حاربت الروم والفرس وانتصرت على الاثنين، وقد انتصرت بكتاب هو القرآن، حَمَلها من شاطئ الفارسي إلى شاطئ الأطلسي.
الباطل يَذهب بضوضائه؛ فلا يَخْلف شيئًا، وكذلك فَعَل (هتلر ) وكذلك فَعَلت النازية، وكذلك فعلت جيوش التتار والهكسوس، وكذلك انتهت غزوات (عبد الناصر ). أما الإسلام فهو باق في الأرض بعد أن انهَزم أهله، وهو باق إلى أن تَقُوم الساعة، برغم ما أصاب أهله وشعوبه من ضَعْف وتأخُّر. إنها الكلمات، وسِحر الكلمات، وسلطان الكلمات؛ فالكلمات - حتى الباطل الكاذب منها - يَفعل ويُؤثِّر ويَقتُل ويُغيِّر التاريخ، إنها الكلمات، تلك العبوات الناسفة من الحروف، التي أودع الله فيها التأثير والتغيير.
6- لعبة تحرير الشعوب
(ستالين ) استخدم الراية الماركسية؛ ليقول أنه يحرر الشعب من الجوع، وأن الحرية هي أن يجد كل واحد ما يأكله، وأنه سيوفِّر هذا للناس، وليس لأحد أنْ يقول لا أو يحتج أو يعترض، وكل مَن يعترض؛ فهو مُخرِّب ومنحرف ورجعيّ، وعقابه الإعدام والسجن والتشريد. وبهذا أَعدم خمسة ملايين فلاح اعترضوا على نَزْع ملكياتهم الصغيرة، وقال في بساطة شديدة أنه قَتَل هؤلاء الفلاحين من أَجْل الرخاء والتقدم والعدل والحرية، وغَسَل يديه من الأمر كله. والجبارون على الشاطئ الآخر، اتخَذوا لأنفسهم مذهبًا آخَر، ودِينًا آخَر يبرِّرون به القتل، وقال كل منهم أنه محرِّر الشعب.
يا أيها الناس متى تعلمون أن الحاكمية لله وحده؟ وأنه وحده الذي يَرزق ويُعطِي ويَمنع ويَبني ويُعمِّر ويُخضِّر الصحارى؟ ويُغيِّر التاريخ ويُبَدِّل الجغرافيا؟ وأنه وحده المحرِّر والمخلِّص؟ وأنه خالق الحرية فينا بالأصالة، وأننا نختار به، وبما وَهَبَنَا من قدرات على الترجيح والإرادة والتنفيذ؟ وأننا نُرزَق بما يَمُدنا من أسباب؟ وأننا نَحْكم باستخلاف منه وتوكيل عنه؟ ولا نستطيع أن نَفعل هذا إلا بإذنه ومشيته، وأنه استخلاف بأجَل وميقات؟ ولا يستطيع جبار - مهما بَلَغ جبروته - أن يَمد في حُكْمه يومًا أو ساعة أو ثانية؟ وإنما ينجح الحاكِم في الإصلاح والتعمير والتغيير؛ إذا حَكَم بالموافقة والانسجام مع القوانين والسنن الإلهية وإذا أَحسن الخلافة والوكالة عن سيده.
7- الخروج من الظلمات إلى النور
إننا نَري النور في تحولات الناس من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم، ومن السفاهة إلى الحكمة، ومن الضلال إلى الرشد، ومن البهيمية إلى الإنسانية، ومن الشهوة إلى التعقل، ومن الخطيئة إلى التوبة. إني أراها تَحْدث دائمًا من خلال المعاناة والمكابدة، وتُولَد بالألم والمخاض والأوجاع؛ فالخُطَب والمواعظ والكُتُب لا تستطيع أن تصلِح إنسانًا، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحضرته الكاملة، لا يستطيع أن يَهدي واحدًا، ولا أن يُخْرِج نفسًا واحدة من الظلمة إلى النور، إلا أن يشاء الله: ",إنك لا تَهْدِي مَن أَحببتَ ولكن الله يَهدي من يشاء ",.
إنَّ أشد الناس بلاءً هم الأنبياء، ولقد عانوا جميعهم المرض والفقر، واليتم والاضطهاد، والقتل والنفي والتشريد والتكذيب. ومِثلهم الأولياء والمصلحون والحكماء والقادة الشرفاء، وأصحاب كلمة الحق في كل عصر. كلهم كابدوا وتألق نورهم بالمكابدة. وما أشبه ذلك الإخراج من الظلمة إلى النور، بالجراحة وشقّ اللحم وخروج الأجنة من ظلمة الأرحام، من خلال المخاض المؤلم والصراخ والتوجع. وأنا أَذكر أني أجريت في حياتي العديد من الجراحات، ارتَبطتْ آلامها المضنية بنمو خاصية التأمل والتفكر فيما أقول وفيما أَكتب.
طُرُق الله في إصلاح عباده ليس لها حَصْر. ولا أحد يستطيع أن يحدِّد رحمته أو يَحصُر فَضْله، ولكن من عجائب ما ينتج من التأمل: أنَّ الفقر والمرض والألم والمكابدة والمعاناة، غالبًا ما تَكُون هي وسائل رحمته وعَيْن فَضْله. ومن يدرِك هذا؛ يَتعلم التسليم بأمر الله ويترك التدبير لمشيئة الله، ويلتزم الأدب مع الله ولا يعترض على السلب والمنع، بل يَشكر ربه على المنع كما يَشكره على العطاء، بل ربما خاف العطاء وخشي مِنْه الفتنة، واستراح إلى المنع ورأى فيه المِنَّة. وتلك بعض أسرار المكر الإلهي، الذي يخشاه العارفون. جعلَنا الله منهم وأخرَجنا من ظُلْمَتِنَا إلى نورنا بالألم والمكابدة؛ لنشكر له الألم، ولنشكر له المكابدة، ولنشكر له النور؛ فلا شيء کالنور ولو خَرَج من النار.
كتب اخرى للمؤلف
كتب فى نفس التصنيف