وصف الكتاب
",من أنت أيتها السيدة؟ أما من نسل لك على الأرض؟؟ سنكسر معاً توافقات الليل والنهار وندور كالنطف إلى أن يرى كل منا الآخر ويلائمه سألتف عليك كاليرقات وتلتفين علي كالشرانق... وسنغسل الأرض برغاء الشمس وخبز المحارات، ونضطجع وحيدين في العراء لا نكلم الناس ثلاث ليال إلا رمزاً هذه هي هجرته الأولى إليك، صه.. صه.. كان الجسد يتكلم فوق ما تقدر اللغة وتحتويه الكلمات من حروف ومعنى، كان يكتب كلماته على البحر ويهمس بها إلى الريح ويغمي أغنياته، ويستحم عرياناً في زبرجد الأبد، ويمسك بالقضبان ذات الرياحين والمزامير، وكان يقرأ المزامير وهو واقف على حافة الأرض ويراقب الشمس وهي تخلع عنها، أردية النهار وتدخل إلى كهف الليل ومواخيره، وكان يمسك بخطاطيفه يمام الجسد ويصنع من الرغبة زوارق بيضاء، لأماسيه وصباحاته، وأنا أتلصص عليه من فرج الوقت والقنوط، وأحمل عجيزة الزمن على كتفي وأرجل -وراءه- من بلد إلى بلد وأتحمل في سبيله المشاق والرغائب، وأهيئ نفسي لاكتمال الدورات، قلت: اصعد غليها ورحت أغذ الخطى، كانت السموات تتفتق حولي كالسراويل وتنخلع عن الأرض كالبرانس، فنمت ألف عاماًن وكان هناك جدار يريد أن ينقض وأخذت أحفر إلى أن اتسعت الدائرة وصارت كالهاوية قلت: انزل، وبقيت هناك في الهاوية ألف عام، وأخذت في الدمع والغناء إلى أن امتلأت الأرض بالبكاء والفرح، وصارت مثل بحر لجي موجه طام وظلماته بعضها فوق بعض فارتفعت الأمواج للحافة إلى أشرقت الشمس بنور المرأة كان ثمة أوحال وغيمات كثيرة منتشرة، وكان هذا اسمها، قلت: إذن لا حول لي غير أن طائراً أتى إلي وكلمني وقال لي: ابدأ نشيدك أيها الجسد واقترب من هوة الروح، ولتشتعل بالنشوة وغبار المسافات ووحل الأزمنة ولا تمكث إلا في قاع الجسد غريقاً وأترك لعصافيرك أن تنام وهي تقطع الأفق غير هيابة من الموت أبداً نشيدك أيها الصقري يا جنازة الأرض ويا مآتم الفرح والغيابات. هذه هي شهادة الحواس الخمس ألقيها عليك فاحفظها لئلا تخرج عن الطاولة، كان محي الدين بن عرب يغسل نافورة الجسد بتراب الرغبة ويملأ جرته من زبد الشمس كل صباح وفي القيلولة يبدأ مدوناته وفتوحاته",.
محمد آدم أحد رواد الحداثة السبعينية الذين أحدثوا هزة كبرى في مسيرة الشعرية العربية، لكنه من بين جيله كان له خصوصيته وتفرده، وخصوصيته في أنه لم ينقطع عن موروثه الثقافي جملة، وموروثه العرفاني على وجه الخصوص. لقد جاءت خصوصية محمد آدم من امتلاكه لأدواته اللغوية بوصفها إحدى مبتكراته لا بوصفها ميراثاً فوقياً مقدساً، ومن ثم اتجهت شعريته إلى تخليص اللغة من وظيفتها التوصيلية بحيث أصبحت عنده هدفاً في ذاته، فالذي يتكلم في شعريته لغته وأبنيته الصياغية المتمردة على اللغة المستهلكة، أي إن الجماعة أصبحت، عند محمد آدم، فردية، والفوقي أصبح عنده حياتياً، وقد بلغت شعريته أفقها الصحيح عندما هجر التجربة بمفهومها الرومانسي والواقعي، وخلق في مدارات الحال والموقف والمقام، وبخاصة مقام الجسد، الذي أصبح هو العالم، ومن خلاله أبحر إلى المجهول والخبيء على نحو ما صنع الصوفيون عندما أدركوا أن وراء العالم الحاضر عالماً غائباً عليهم أن يقاربوه بالملاينة حيناً والاقتحام العنيف حيناً آخر.